يتميّز القانون الإداري بمجموعة خصائص أضفت عليه طابعا مميزا و جعلت منه قانونا مستقلا وله ذاتيته الخاصة. ومن هذه الخصائص أنه حديث النشأة يتسم بالمرونة ودائم الحركة كثير التطور إلى جانب ذلك أنّه قانون غير مقنن ومن منشأ قضائي نوجز هذه الخصائص فيما يأتي:
1. القانون الإداري حديث النشأة:
سبق القول عند الحديث عن نشأة القانون الإداري أنّ هذا الفرع من القانون ظهر للوجود على يد محكمة التنازع ومجلس الدولة الفرنسيين ابتداء من المرحلة التي أعترف فيها لمجلس الدولة بالسلطة التقريرية ولم يعد جهة رأي واقتراح.
ومعنى ذلك أنّه قبل 1872 لا يمكن الحديث في علم القانون عن فرع اسمه القانون الإداري بالمعنى الفني كمجموعة قواعد استثنائية غير مألوفة في مجال القانون الخاص تحكم نشاط الإدارة و تنظيمها ومنازعاتها.
ولقد قلنا سابقا أنّ نشأة هذا القانون بالذات ارتبط بالظروف السياسية التي مرت بها فرنسا. وهذا أمر طبيعي طالما كان القانون الإداري يحكم السلطة التنفيذية في تنظيمها و عملها وعلاقاتها و منازعاتها.
ولا شك أنّ هذه السلطة في الزمن السابق للثورة كانت على الغالب الأعم لا تخضع للرقابة القضائية. ولا يسأل أعوانها عما سببوه من ضرر للغير. ومع التطور الذي طرأ على المجتمع الفرنسي خاصة بعد الثورة أصبحت الإدارة تسأل عن أعمالها التي تسبب ضررا للغير. وتخضع في نشاطها للرقابة القضائية. وهو ما ثبت عملا كما رأينا في قضية بلانكو الشهيرة.
وهكذا فإن تغير نمط الحكم في فرنسا عقب الثورة وما تبعه من تشريعات كان له أثر كبير في ظهور القواعد الغير مألوفة أو القانون الإداري بالمعنى الفني. وحري بنا التنبيه أنّ حداثة نشأة هذا الفرع من القانون شكلت ولو نسبيا عائقا يقف وراء غموض كثير من مصطلحاته إلى غاية اليوم نذكر منها المرفق العام والسلطة العامة و المنفعة العامة...الخ
ورغم الجهود المبذولة من قبل الفقه و القضاء في فرنسا وخارجها فان بنيان هذه القانون لم يكتمل بعد.
2- القانون الإداري يتسم بالمرونة و التطور:
لماّ كان القانون الإداري يهتم أساسا بالإدارة العامة ويحكم نشاطها فانّه تبعا لذلك وجب أن يكون قانونا متطورا لا يعرف الاستقرار ذلك أنّه ما صلح للإدارة اليوم قد لا يكون كذلك في وقت لاحق.
وتأسيسا على ذلك وجب أن يتكيف هذا القانون مع متطلبات الإدارة وفقا لما يتماشى ووظيفتها في إشباع الحاجات العامة للجمهور. وهذا الهدف وحده نراه في حركة دءوبة ودائمة. الأمر الذي سينعكس في النهاية على أحكام ومبادئ القانون الإداري فيجعلها قابلة للتطور و التغيير.
وإذا كانت قواعد القانون المدني و التجاري و البحري مثلا رغم ثباتها النسبي قابلة للتعديل من زمن إلى آخر، كلما اقتضى الأمر ذلك، فإنّ قواعد القانون الإداري و هي التي تتسم بعدم قابليتها للتقنين و الحصر كأصل عام ستفسح مجالا في حالات كثيرة للإدارة لاختيار القاعدة التي تليق بها. كما أنّ القضاء ذاته صرح في كثير من أحكامه و قراراته ومنها بلانكو المشار إليه أنّ أحكام هذا القانون قد تتغير بحسب مقتضيات المرفق العام.
ولا نجانب الصواب عند القول أنّ هذه المرونة كانت أحد أهم الأسباب التي حالت وتحول دون تقنين القانون الإداري. فإذا كانت خطوات الفرد وعلاقته محدّدة ومعلومة ويمكن معرفتها و التنبؤ بها وتنظيمها بمقتضى نصوص رغم تشعبها، فإنّ الأمر لا يكون كذلك إذا دخل في الاعتبار عنصر الإدارة العامة مما يتعذر معه التنبؤ بالنشاط مسبقا، وبالظروف المحيطة به، وتفاعل الإدارة مع هذه الظروف، وموقف القاضي منها...
ولا شك أن هذه المرونة ازدادت سعتها وامتد نطاقها بظهور ميادين وقطاعات جديدة أفرزها تدخل الدولة في مجالات كانت الإدارة بعيدة عنها فيما مضى كالنشاط الاقتصادي و الاجتماعي.
ولا تفوتنا الإشارة أنّ التقدم العلمي و التكنولوجي أيضا يساهم في إنشاء نشاطات إدارية مختلفة و التحكم فيها. فالاختراعات العلمية و الاكتشافات الكثيرة و المتنوعة وما لازمها من ظهور لمشروعات متنوعة أدى إلى تدخل الدولة لمباشرة هذه النشاطات والإشراف والرقابة عليها بما يؤدي إلى سيطرتها على مختلف أوجه النشاط وتنظيم الحركية الاقتصادية بهدف إشباع الحاجات العامة للجمهور.
3- القانون الإداري غير مقنن:
يقصد بالتقنين تجميع رسمي لأهم المبادئ القانونية بخصوص مسألة معيّنة في منظومة تشريعية كأن نقول القانون المدني أو القانون التجاري أو البحري. والتقنين على هذا النحو عملية تشريعية تتمثل في إصدار تشريع يضم المبادئ والقواعد التي تحكم فرعا معينا من الروابط و العلاقات.
ويظهر التقنين نتيجة جهود تقوم بها كل من السلطة التشريعية داخل كل دولة وكذلك جهود السلطة التنفيذية. كما يساهم الفقه أيضا وكذلك القضاء بشكل غير مباشر في ظهور التقنين.
ويأخذ ظهور التقنين زمنا غير قصير. وكلّما تضافرت الجهود من أجل صياغة تقنين معين كلّما ظهر التشريع في صورة يخلو من الثغرات القانونية والأخطاء.
ولاشك أنّ تقنين القاعدة وتبيان ألفاظها وحصر معانيها يؤدي إلى وضوحها فيسهل على القاضي معرفة مقصد المشرع ونيته من خلال ما أقره من قواعد مقننة. ومن ثمّ يسهل عليه الإلمام بها وتطبيقها أحسن تطبيق.
ولقد سبق البيان أنّ التشريع في غير المجال الإداري يتسم بالثبات ولو نسينا بحكم إمكانية التنبؤ بالعلاقة وما قد تثيره من إشكالات. ومن ثمّ فانّ مهمة المشرّع تكون يسيرة وهو يضع قواعد للقانون المدني أو التجاري أو البحري. وخلاف ذلك تماما تكون المهمة في غاية من التعقيد و العسر إن هو حاول حصر وجمع مختلف القواعد الّتي تنظم شتى صور النشاط الإداري بمجالاته المختلفة. من أجل ذلك ذهب الدكتور سليمان محمد الطماوي إلى القول: " إنّه لو قدر لهذا القانون أن يقنن لأصبح أكثر القوانين عرضة للتغيير و التبديل...".
و إذا ما أتينا لحصر الأسباب التي تحول دون تقنين القانون الإداري لأمكن جمعها فيما يلي:
أ- حداثة نشأة هذا القانون: إنّ هذا القانون كما بينّا سابقا حديث النشأة فقواعده لم تظهر إلا في أواخر القرن 18 ولازالت لحد الساعة في طور التكوين. وهذا خلافا لقوانين أخرى كالقانون المدني و الجنائي و المالي يعود ظهورها إلى قرون خلت.
ب- مرونة النشاط الإداري: إنّ مرونة النّشاط الإداري وقابليته للتطور و صعوبة التنبؤ بمختلف جوانب النشاط الإداري وما يحيط به من إشكالات قانونية، كلها عوائق تقف دون إمكانية جمع مختلف أحكام ومبادئ القانون الإداري.
وإذا كان عدم التقنين يشكل أحد الخصائص التي تميّز القانون الإداري، فإنّه من جهة أخرى يعتبره البعض عيبا من عيوب هذا القانون ذلك أنّ عدم التقنين ينجر عنه عدم وضوح القواعد التي تحكم الإدارة العامة وعدم ثباتها مما يجعل في النهاية قواعد هذا القانون سرية لا يعلمها إلا من تخصص في القانون الإداري أو كان على صلة مباشرة بالإدارة مما يفقد أيضا الأفراد شعورهم بالاطمئنان خوفا من مراكزهم القانونية التي قد يصيبها الاهتزاز.
ونظرا لما أسفرت عنه ميزة عدم التقنين من نتائج، وهي أحد مساوئ القانون الإداري في نظر البعض، كثرت الصيحات التي تنادي بضرورة تقنين هذا القانون وجمع قواعده وأحكامه في منظومة واحدة. غير أنّ طبيعة هذا الفرع تأبى من أن يقنّن في مجموعة تشريعية شاملة تحكم مختلف أوجه النشاط الإداري.
وإذا كانت القاعدة العامة هي عدم قابلية القانون الإداري للتقنين و الحصر فانه استثناء من ذلك يجوز تقنين بعض لجوانب التنظيم الإداري أو النشاط الإداري أو وضع قواعد إجرائية تحكم منازعات الإدارة أو موظفيها أو أموالها أو بعض سلطاتها.
- القانون الإداري قانون قضائي:
أجمعت مختلف الدراسات أنّ القضاء خاصة الفرنسي ممثلا في مجلس الدولة لعب دورا رائد في إظهار القانون الإداري إلى حيز الوجود. ذلك أنّ مجلس الدولة وفي مرحلة القضاء المفوض، حين عرضت عليه منازعات الإدارة رفض إخضاعها للقانون الخاص وفي غياب كامل لنصوص أخرى تحكم نشاط الإدارة. الأمر الذي فرض عليه تقديم البديل وإيجاد النصوص الّتي تلائم متطلبات الإدارة العامة. وشيئا فشيئا وحال فصله في المنازعات الإدارية المعروضة عليه استطاع المجلس أن يرسي قواعد قانونية من العدم وعرف من خلالها كيف يوازن بين المصلحة العامة أي حقوق الإدارة و سلطتها من جهة، وحقوق الأفراد من جهة أخرى. وهذه القواعد أصطلح عليها فيما بعد بالقانون الإداري.
وتدفعنا ميزة المنشأ القضائي للقانون الإداري التمييز بين القاضي العادي والقاضي الإداري. فالأول قاض تطبيقي أي أنّه يتولى تطبيق النصوص على القضايا المعروضة عليه. فإذا كان النزاع مدنيا لجأ للقانون المدني وان كان تجاريا لجأ للقانون التجاري وهكذا...بينما تتجلّى مهمة القاضي الإداري أنّه كأصل قاضي تأسيس و إبداع وإنشاء، فهو الذي يبدع القاعدة في حال عدم وجودها و تطبيقها على النزاع المعروض عليه، وهي مهمة في غاية من الصعوبة.
من أجل ذلك تمتّع القاضي الإداري بسلطات أوسع من القاضي المدني، سلطات من شأنها أن تساعده على إقرار قاعدة عادلة تحكم النزاع الذي بين يديه خاصة وأنّ أحد أطراف النزاع سلطة عامة (السلطة التنفيذية) وتتمتع هي الأخرى بامتيازات وسلطات. ومن ثمّ كان لزاما تزويد القاضي بسلطة أوسع لإخضاع الإدارة للقانون تكريسا وتطبيقا لمبدأ المشروعية.
يتبع ................/