حقوق" الدول في التنمية، لكنها تحاشت أي إشارة للمعايير البيئية(كالفرت وكالفرت 2002: 425) . ومما زاد الطين بلة أن نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات قد شهدت تجاهلا واضحا للقضية البيئية في الدول الأكثر تقدما مع تأكيد حكوماتها المتزايد على "حلول" السوق الحرة، بالتزامن مع تخلي تلك الدول عن مسئوليتها عن النتائج البيئية السلبية للعمليات الاقتصادية. ولذا يمكن القول بأن الاتجاه السائد في تلك المرحلة كان بعيدا عن أي إجماع دولي تجاه قضايا البيئة.
وبقي الأمر هكذا حتى جاءت نقطة التحول الحاسمة في عام 1983م عندما طلب الأمين العام للأمم المتحدة من رئيسة وزراء النرويج آنذاك، جرو هارلم بروندتلاند Gro Harlem Brundtland تشكيل لجنة للبحث عن أفضل السبل التي تمّكن كوكبنا الذي يشهد نموا سكانيا متسارعا من أن يستمر في الإيفاء بالاحتياجات الأساسية من خلال صياغة افتراضات عملية تربط قضايا التنمية بالعناية بالبيئة والمحافظة عليها، وترفع من مستوى الوعي العام بالقضايا ذات الصلة بالموضوع. ومع نشر الوكالة (التي أصبحت تعرف بالوكالة العالمية للبيئة والتنمية، والمعروفة اختصارا WCED ) لتقريرها " مستقبلنا المشترك"Our Common Future" في عام 1987م، الذي جاء متزامنا مع الصدمة البيئية الأكبر للرأي العام العالمي المتمثلة في اكتشاف ثقب الأوزون "ozone hole" فوق القارة المتجمدة الجنوبية والتي دفعت إلى الاتفاق في نفس العام على بروتوكول مونتريال لمعاهدة فينا حول حماية طبقة الأوزون بهدف تنظيم استخدام وإطلاق المواد المستنفدة للأوزون مثل غازات الكلوروفلوروكربون (CFCs) والهالون Halons، أصبح مفهوم "التنمية المستدامة أو المتواصلة Sustainable Development" مفهوما محوريا للتفكير المستقبلي(كالفرت وكالفرت 2002: 425) . ومن ثم يمكن القول أن هذه التطورات المقلقة والشعور بأن بقاء البشر ومصيرهم مرتبطان ببقاء ومصير الكائنات الحية الأخرى وكذلك باستمرار كوكب الأرض ومنظوماته مكاناً صالحاً للحياة، فضلا عن الإدراك العالمي بمدى ما وصلت إليه الأمور من سوء منذ عام 1973م قد أسهمت بشكل مباشر في انعقاد أول قمة بيئية عالمية من نوعها هي قمة الأرض في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية عام 1992م.
وتكمن أهمية أول قمة للأرض في ريو في أنها قد وضعت حجر الأساس لرؤية عالمية جديدة عن البيئة محولة الأجندة الكونية إلى التنمية المستدامة من خلال إثارة اهتمام الرأي العام العالمي بالعلاقة المتبادلة بين الأبعاد البيئية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية للتنمية، كما مهدت الطريق أمام مفهوم التنمية المستدامة لاختراق الخطاب الاقتصادي والسياسي. ففي تلك القمة ألزم المجتمع الدولي نفسه بمفهوم التنمية المستدامة وقام بالفعل بصياغة قانون دولي بيئي، فمثلا تلزم مادة 27 من إعلان ريو حول التنمية والبيئة الدول والشعوب بتطوير "قانون دولي في مجال التنمية المستدامة"، كما تنعكس الخطوط العريضة لطبيعة ومحتوى القانون الدولي في مجال التنمية المستدامة بشكل واضح في اتفاقيتين تم تبنيهما في مؤتمر الأمم المتحدة عن البيئة والتنمية UNCED، وهما اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية حول التغير المناخي واتفاقية التنوع البيئي اللتان تمثلان أدوات قانونية دولية لمعالجة المسائل الاقتصادية والبيئية بأسلوب متكامل (Sands 1995: 53).
فقد تم الاعتراف بأهمية التنمية المستدامة وعلاقتها بالتغيرات المناخية ضمن الاتفاق الإطاري للأمم المتحدة بشأن التغير المناخي الذي يهدف أساسا إلى العمل على استقرار تركز الغازات الدفئية GHGs في الغلاف الجوي. حيث يشير البند الرابع من المادة الثالثة إلى أن:
للأطراف حق تعزيز التنمية المستدامة وعليها هذا الواجب. وينبغي أن تكون السياسات والتدابير، المتخذة لحماية النظام المناخي من التغير الناجم عن نشاط بشري، ملائمة للظروف المحددة لكل طرف، كما ينبغي لها أن تتكامل مع برامج التنمية الوطنية، مع مراعاة أن التنمية الاقتصادية ضرورية لاتخاذ تدابير لتناول تغير المناخ (أنظر: اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ 1992).
كما ألزمت أطراف الملحق 1 من الاتفاق الإطاري أنفسها في بروتوكول كيوتو 1997م بالمستويات المحددة للانبعاث بهدف تثبيت انبعاث الغازات الدفئية وتعزيز التنمية المستدامة (كما تشير المادة 2 من بروتوكول كيوتو). ومع مصادقة روسيا عليه في 2005م بدأ العمل بالبروتوكول وبدأت بعض الأطراف بالفعل في سن تشريعات ومعايير قومية للإيفاء بالتزاماتها تجاه البروتوكول، من خلال وضع حدود قومية قصوى لمستويات الانبعاث فضلا عن أنشاء نظم تبادل الانبعاث.
ومع أن البروتوكول يتضمن آليات قضائية واقتصادية من أجل مواجهة موضوع إيقاف أو لجم انبعاث الغازات إلا أن تقديمه لأدوات اقتصادية مثل تبادل الانبعاثات وعدد أخر من الوسائل المرنة (كما تشير الفقرات 12،11،10 من المادة الثالثة من بروتوكول كيوتو 2005) قد تسبب في ظهور مقايضات عالمية من أجل الحصص التبادلية، وحقوق الانبعاث، ونشوء سوق جديدة بالكامل للتلوث. فنظرا للعواقب الاقتصادية لنظام التغير المناخي تتفاوض البلدان وفقا لمصلحتها الذاتية بحيث أن كلا منها يميل إلى افتراض المؤشرات الأكثر فائدة لمصالحها الذاتية(Grubb 1998, 140-146).
وتعتبر الآثار الاقتصادية للمناخ المرتبطة بالتنظيم حاسمة نظرا لأن الخفض الكوني للغازات الدفئية يمس جوانب حساسة مثل الصناعة، والطاقة، والمواصلات في كل من الدول المتقدمة والنامية. ومع أن خفض مستويات التلوث والحفاظ على الرواسب الكربونية الطبيعية مرتبطان معا بالإطار الأوسع للتنمية المستدامة، إلا أن التركيز على مستويات الانبعاث كان أكثر حضورا نظرا لهيمنة مصالح البلدان الصناعية. وبرغم أن الروابط بين التنمية المستدامة والتغير المناخي قد استقطبت اهتماما متزايدا إلا أن هناك قيودا وعقبات متأصلة فيما يتعلق بتطوير اقتراب عملي يدمج بين إيقاف التغير المناخي وتعزيز التنمية المستدامة. وبرغم أن كل المحاولات التي تمت في هذا المجال قد أدعت أنها متطابقة مع الهدف الأساس للميثاق إلا أنه أصبح واضحا أنه حتى السؤال الأكثر أساسية والمتعلق بكيفية التوفيق بين التنمية الاقتصادية وحماية الغلاف الجوي للأرض بقي دون إجابة إلى حد كبير.
ويمكن القول بأن هناك عائقان في طريق إيجاد نظام فعال للتحكم في التغير المناخي. يتمثل أولهما في أن إيجاد مثل ذلك النظام يتطلب حدوث تغيير ما في المفهوم التقليدي لسيادة الدولة إلا أنه كان واضحا في المفاوضات خلال المؤتمرات أن مبدأ سيادة الدولة لا يزال مهيمنا وهذا يعني أنه لا يلزم أن تعلن أي دولة صراحة التزامات محددة بل أن الدول حرة في رفض أو قبول التزامات المعاهدة.
أما العائق الثاني فيتمثل في الخلاف العميق في الآراء بين الدول المشاركة فيما يتعلق بالمعايير المطلوبة والطريقة التي من خلالها يتم توزيع المسئولية. ويعكس اتفاق الإطار هذه الاختلافات من خلال استهداف كل من الحماية البيئية وتشجيع التنمية الاقتصادية. فمن خلال السعي لتحقيق الهدف الجوهري للاتفاق الإطاري تدفع الفقرة الثالثة من المادة الثانية من بروتوكول كيوتو بهذا الاختلاف قدما، فمع أن البروتوكول يهدف إلى الحد الكمي لانبعاث الغازات الدفئية GHGs إلا أنه يؤكد من جهة أخرى على الحاجة لتقليص الآثار السلبية لتلك السياسة على التجارة الدولية فضلا عن الآثار الاقتصادية والاجتماعية الأخرى(كما ورد في بروتوكول كيوتو 2005).
وتبعا لهذه الطبيعة الواسعة وغير المحددة لاتفاقية الإطار وهدف البروتوكول فقد منحت الدول المعنية قدرا واسعا من الحرية فيما يتعلق بكل من التفسير والتطبيق. فمع أن الامتثال لاتفاق الإطار يتطلب من الحكومات الوطنية أن تجري بعض التعديلات على سياساتها الوطنية وخاصة في مجالي الطاقة والمواصلات، إلا أن الغموض المحيط بمفهوم التنمية المستدامة يفتح الباب واسعا لاحتمالات المزاعم الاقتصادية حول التكلفة، والفعالية، والتفاؤل التي توظف بشكل مهيمن لرفض أو تأجيل تطبيق سياسات الحد من الانبعاث. وهذه هي الذريعة التي دفعت الكونجرس الأمريكي لرفض المصادقة على بروتوكول كيوتو مما جعل البرنامج البيئي العالم يبكامله في مهب الريح. وحتى في الحالات التي يتم فيها التطبيق ضمن النظم القضائية الوطنية فإن القوانين تبقى ضعيفة، مع منحها الأجهزة الإدارية الوطنية المختلفة، مثل الوزارات ووكالات السيطرة على التلوث ووكالات مقايضة التلوث قدرا واسعا من حرية الاختيار فيما يتعلق بالتفسير أو التطبيق.
ومع أن مفهوم التنمية المستدامة كان يمثل المحور الأساس للنقاش في قمة الأرض الثانية حول التنمية المستدامة التي انعقدت في جوهانسبرج في أغسطس من عام 2002م وحضرها ممثلون لأكثر من 160 بلدا، بهدف إزالة التناقضات بين التنمية الاقتصادية وحماية البيئة فضلا عن تطوير مزيد من الاتفاقيات في مجال التنمية المستدامة، إلا أن التوقعات منها كانت، وبعكس قمة ريو التي عقدت في 1992م، أقل من المتوقع ثم جاءت النتائج مخيبة للآمال. حيث لم يقتصر الإخفاق على الفشل في التوفيق بين التنمية الاقتصادية وحماية البيئة بل تجاوزه إلى تأكيد عدد كبير من الدول المشاركة، صراحة أو ضمنا، باستحالة تجنب حدوث المزيد من التدهور في الأنساق البيئية للأرض والماء وارتفاع مستويات انبعاث الغازات الدفئية Greenhouse Gases والاستغلال المفرط للموارد الطبيعية. ويلاحظ، في هذا السياق، أنه برغم الالتزام الكوني بالعمل على استقرار تركز تلك الغازات في الجو إلا أن جزءا ضئيلا فقط من إنتاج الطاقة العالمي اليوم يستند إلى استخدام مواد غير عضوية. ومن ثم يمكن القول أن تزايد وتيرة التدهور البيئي الكوني فضلا عن تزايد معدلات الفقر وتفاقم حال فقراء العالم تشير جميعها إلى حالة ركود في ممارسة أنماط إنتاجية واستهلاكية مستدامة.
ولا يزال الجدال مستمرا. ففي الوقت الحاضر تهيمن الاعتبارات الاقتصادية على أجندة الاستدامة الدولية والوطنية على حد سواء، مما يجعل مسألة حماية البيئة تحتل موقعا هامشيا. فبينما تستمر معدلات صافي الدخل القومي للبلدان الصناعية في النمو وتستمر الشركات عبر القومية في التوسع تتفاقم الضغوط على الأنساق البيئية الطبيعية والموارد. وبدلا من مواجهة تحدي تطوير أسلوب مستدام للحياة يستطيع تلبية احتياجات الناس الأساسية في كل مكان دون القضاء على الأنساق البيئية، يتركز الاهتمام في الوقت الحاضر على تحقيق مزيد من النمو الاقتصادي دون الاعتراف بمحدودية الموارد الطبيعية. إن هيمنة المصالح الاقتصادية و "النمو من أجل النمو فقط"، كما يؤكد ليستر براون، قد تغلغل في كل أنحاء الكرة الأرضية(Brown 1998: 4).
ويمكن القول باختصار أن العالم قد بدأ بالفعل وبصعوبة طريقه تجاه التنمية المستدامة خلال العقد الأول بعد قمة ريو، كما باشر عدد من الحكومات بحماس التزاماتها تجاه توصيات القمة وتنفيذ ما ورد في إعلان ريو وأجندة 21، إلا أن الإنجازات التي تحققت كانت بشكل عام غير كافية ولا يزال هناك الكثير الذي يجب القيام به لمواجهة التحديات المختلفة والمتعددة التي تواجه الحياة المستدامة على كوكب الأرض.
خلاصة
برغم أن الصورة القاتمة للوضع البيئي في سبعينات القرن الماضي قد أسهمت في دفع الاتجاه الرئيس والمعتدل في الحركة البيئية لممارسة الضغط على الحكومات مع توظيف جهد أكبر في مجال الحلول التقنية للمشاكل البيئية، إلا أن ألاتجاه الثوري لم يكن مقتنعا بجدوى تلك الحلول التقنية حيث أعتبر أنصاره أن الأزمة البيئية هي نتيجة لأزمة القيم السائدة "قيم الحداثة"ومن ثم اعتقدوا بأن المفتاح لتحول بيئي اجتماعي يتمثل في إحداث تغير جذري في منظومة القيم السائدة (خاصة التراتبية، والهيمنة، والأداتية) يؤدي إلى بروز نموذج إرشادي مهيمن جديد ينهي ممارسة الهيمنة –على الناس والطبيعة- في العلاقة بين الطبيعة والبشرية ومن ثم بين الإيكولوجيا والمجتمع. ومع أن أنصاره يرون أن الإصلاح التقني في المجتمع الصناعي ضروري إلا أنهم يعتقدون أنه سيكون فاعلا فقط عندما يصاحب بتغير قيمي. وبرغم الاختلافات في وجهات النظر بين أنصار هذا المذهب إلا أنهم يتفقون جميعا على أن المذهب البيئي - وخاصة من خلال خطاب التنمية المستدامة المهيمن عليه حاليا- لا يهتم بالاعتبارات التوزيعية الملحة للأزمة البيئية، وأن التنمية المستدامة تعالج الأعراض بدلا من الأسباب.
ومع ذلك فإن خطاب التنمية المستدامة السائد اليوم يستند بشكل أكبر على المذهب البيئي المعتدل أو الإصلاحي، حيث كان واضحا منذ بداية ثمانينات القرن الماضي أن الجناح المعتدل أو المذهب البيئي قد كسب بالفعل المعركة على مستقبل السياسة البيئية خصوصا من خلال آلية التنمية المستدامة. فعبر التنمية المستدامة نجحت الحركة الخضراء المعتدلة في وضع القضايا البيئية على الأجندة السياسية في وقت قصير نسبيا وجعلت التنمية المستدامة تصنع في الوقت الحاضر معظم السياسة البيئية المعاصرة. وتعكس هذه السياسة وجهة النظر العامة بأن هناك حاجة لموازنة التنمية الاقتصادية مع مطالب الاستدامة الإيكولوجية والاجتماعية. فالتنمية المستدامة تتطلب أن تأخذ النشاطات الاقتصادية في الاعتبار الآثار البيئية والاقتصادية والاجتماعية المتداخلة الناتجة عنها من أجل الجيل الحالي والأجيال القادمة.
خاتمة
مع تنامي اهتمام وسائل الإعلام بالقضايا البيئية أصبح الرأي العام أكثر اهتماما بإيجاد حلول لمشاكل من قبيل انقراض الكائنات الحية، والتغير المناخي، والتلوث والعمل على خلق مجتمع مستدام بيئيا. وقد بدا واضحا لهذه الدراسة أن عملية التحول إلى التنمية المستدامة لحماية المجال الحيوي للأرض تتطلب جهود كل المجتمع الإنساني فهي مطلب مبرمج ويجب أن ينجز من قبل الجميع وبلا استثناء. ولذا لابد من الانطلاق من النتيجة التي خلص إليها تقرير نادي روما بعنوان The First Global Revolution، الذي تبنى كتّابه النظرة القائلة أن مشكلة التنمية الحالية هي في حالات عديدة متداخلة وأكدوا فيه أن مشاكل البيئة، والطاقة، والسكان، والتنمية، ومصادر الغذاء، تمثل قضايا متداخلة ضمن إطار المشاكل الكونية، وأن جوهر تلك المشاكل يتمثل في حالة عدم التيقن تجاه مستقبل الإنسانية. ونظرا لأهمية التداخل بين تلك المشاكل، فإنه لا معنى لمواجهة كل عنصر منها منفردا، بل لابد من مواجهة متزامنة لكل تلك المشاكل في إطار إستراتيجية دولية منسقة، وأن نجاح أو فشل أول ثورة كونية يعتمد بشكل حاسم على هذا الأمر. فعلى سبيل المثال لا يمكن إيجاد حل ملائم للأزمة السكانية في العالم إلا إذا تم إيجاد حل ملائم لظاهرة الفقر المتفاقمة، كذلك ستستمر ظاهرة انقراض الكائنات الحية من حيوان ونبات بمعدلات مريعة طالما بقي العالم النامي غارقا في الديون، وفقط عندما يتم وقف تجارة السلاح الدولية يمكن أن يتوفر للعالم الموارد اللازمة لإيقاف التدهور الخطير للمجال الحيوي والحياة الإنسانية. وفي الحقيقة فإنه كلما درسنا وحللنا الموقف كلما زاد إدراكنا في نهاية الأمر بأن المشاكل البيئية المتعددة ليست إلا وجوه مختلفة لأزمة واحدة ووحيدة، هي بالتأكيد، أزمة إدراك تنبع من حقيقة أن معظم الناس وخاصة المؤسسات الاجتماعية الكبيرة في الدول المتقدمة تتبنى مفاهيم (لم تعد ملائمة لمعالجة مشاكل عالم اليوم) نموذج الحداثة الذي هيمن على الثقافة الصناعية الغربية لقرون من الزمن تمكن خلالها من صياغة المجتمع الحديث وأثر بشكل كبير في كل أنحاء العالم من خلال فرضه لعدد من الأفكار والقيم كالنظرة للعالم كنسق أو نظام ميكانيكي مؤلف من عناصر بناء أولية، والنظرة لجسم لإنسان كألة، والنظرة للحياة في المجتمع كصراع تنافسي من أجل البقاء، والإيمان بالقدرة على تحقيق تقدم مادي غير محدود من خلال النمو الاقتصادي والتقني.
فضلا عن ذلك لا يزال كثير من المفكرين الغربيين ينظرون للتنمية المستدامة بطريقة براغماتية لا على أنها وسيلة لتحقيق توازن استراتيجي بين الطبيعة والمجتمع وإنما كمحاولة لإزالة جزء من التوتر في العلاقة المتداخلة بين الحضارة وبيئتها. وبرغم أن مجرد نضال المجتمع العالمي للانتقال من مرحلة النقاش النظري حول الكارثة البيئية إلى مرحلة وضع خطط عملية نحو إزالة ذلك التوتر يمثل جانبا ايجابيا، إلا أنه يجب في نفس الوقت الاعتراف بأن غياب فهم أو رؤية واضحة حول التوجه العام لحركة الحضارة في المستقبل يمثل جانبا سلبيا من مشروع التنمية المستدامة.
من هذا المنطلق، ترى هذه الدراسة أن العالم بحاجة إلى تنمية مستدامة ومتوازنة تركز مبدأ الوقاية بدلا من العلاج. وهذا يعني أن الاستدامة ليست فقط مسألة بيئية، بل أنها تتعامل مع التغيرات والمشاكل في المجالات الزراعية والبيئية والاقتصادية والاجتماعية، مما دفع بعض المهتمين بهذا الشأن أن يطلقوا على حركة الاستدامة هذه "الثورة البيئية" مقارنة لها بالثورتين الزراعية والصناعية اللتين كان لهما تأثيرا تاريخيا هائلا على الثقافة الإنسانية الكونية.
ولذا فإن الاستدامة هي فلسفة برؤية جديدة للبحث عن بناءات اجتماعية، ونشاطات اقتصادية، وأنماط إنتاجية واستهلاكية، وتقنيات تعمل على استدامة البيئة وتمكين الجيل الحالي وتحسين حياته وضمان حياة ملائمة للأجيال القادمة. ولتحقيق ذلك لا بد من إعادة صياغة النشاطات الحالية أو ابتكار أخرى جديدة ثم العمل على دمجها في البيئة القائمة لخلق تنمية مستدامة على أن تكون مقبولة ثقافيا، وممكنة اقتصاديا، وملائمة بيئيا، وقابلة للتطبيق سياسيا، وعادلة اجتماعيا. ومن ثم فإنه من الملائم البدء مباشرة في تبني عدد من الممارسات الداعمة لاستدامة البيئة ومنها:
• استهلاك الموارد باعتدال وكفاءة ومراعاة الأسعار الأفضل للموارد، والاستخدام الأكثر كفاءة للموارد، والأطر الزمنية لاستبدال الموارد غير المتجددة بموارد بديلة، والاستخدامات البديلة المحتملة للموارد.
• عدم استهلاك الموارد المتجددة بوتيرة أسرع من قدرتها على التجدد أو بطريقة يمكن أن تؤذي البشر أو النظم الداعمة للحياة على الأرض وخاصة تلك التي ليس لها بدائل.
• التوسع في مجال الاعتماد على الطاقة النظيفة المتجددة كالطاقة الشمسية والطاقة المائية وطاقة الرياح.
• استخدام الفضلات التقليدية كموارد قدر الإمكان مع التخلص منها عند الحاجة وبطريقة لا تضر بالبشر ونظم دعم الحياة على الأرض.
• النضال من أجل التخلص من المبيدات السامة والمخصبات الكيميائية وخاصة تلك التي تعتبر ضارة بالبيئة.
• استخلاص منتجات النسق البيئي كما في الزراعة، والصيد، والاحتطاب بدون الإضرار برأس المال الطبيعي.
• تشجيع المرونة والكفاءة في كل من النسقين الإنساني والطبيعي من خلال تفضيل البستنة المتجددة، والمتنوعة، والمعقدة على تلك المتسمة بالتجانس والبساطة.
• تفضيل الفلاحة التعددية (زراعة الأرض بمحاصيل متعددة) polyculture على الفلاحة الأحادية (الاكتفاء بزراعة محصول واحد) monoculture للإبقاء على خصوبة التربة، فضلا عن تفضيل زراعة النباتات طويلة العمر على السنوية منها في أنساق الإنتاج البيولوجي قدر الإمكان (كالفرت وكالفرت 2002: 138) .
• إعادة تأهيل البيئات المتدهورة قدر المستطاع من خلال وسائل التحكم أو بخلق ظروف ملائمة لعمليات إعادة الإصلاح الطبيعي.
• تشجيع ودعم عمليات إعادة تدوير النفايات.
• تبني مبدأ تغريم الملوث من خلال سن تشريعات عقابية على المستويات المحلية والقومية والدولية.
وختاما نعود إلى التأكيد على أنه برغم أن مفهوم التنمية المستدامة قد لقي قبولا واستخداما دوليا واسعا منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي إلا أن العالم لم ينجح حتى الآن في تبني خطوات حقيقية جادة على طريق الاستدامة الحقيقية نحو التوفيق بين تلك التناقضات بين التنمية والبيئة الناتجة عن نموذج التنمية المهيمن منذ منتصف القرن العشرين مما يجعل البشرية تواجه مستقبلا محفوفا بالمخاطر وعدم التيقن. ومن هنا، تخلص هذه الدراسة إلى أن التحول نحو الاستدامة المنشودة لا يبدو ممكنا بدون حدوث تغير رئيس وجذري على مستوى النموذج المعرفي السائد بعيدا عن قيم الحداثة، والاستعلاء، والاستغلال المتمركز حول الإنسان باتجاه بلورة نموذج معرفي جديد يتصف بالشمول ولا يتمركز حول الإنسان وينظر للعالم كوحدة كلية مترابطة بدلا من أن يكون مجموعة متناثرة من الأجزاء، ويمكن من خلاله دمج جهود التنمية المستدامة وجهود الحفاظ على البيئة بطريقة مفيدة للطرفين من أجل الصالح العام للجيل الحالي والأجيال القادمة على السواء، وأن يكون ذلك التحول مصحوبا باهتمام بالبناءات السياسية الاجتماعية التي يمكن أن تكون أكثر دعما للاستدامة. وأخيرا نرجو أن تسهم هذه الدراسة في استثارة مزيد من النقاش والدراسات حول أهمية الفكر والسياسة في البحث عن طريق ممكن تجاه الاستدامة.
قائمة المراجع
أولا: المراجع العربية/
اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ 1992.
بروتوكول كيوتو 2005.
زيمرمان، مايكل، الفلسفة البيئية: من حقوق الحيوان إلى الإيكولوجية الجذرية، ترجمة معين شفيق رومية، سلسلة عالم المعرفة، عدد 332، الكويت، 2006.
زيمرمان، مايكل، الفلسفة البيئية: من حقوق الحيوان إلى الإيكولوجية الجذرية، ترجمة معين شفيق رومية، سلسلة عالم المعرفة، عدد 333 ، الكويت، 2006.
كالفرت، بيتر وسوزان كالفرت، السياسة والمجتمع في العالم الثالث: مقدمة، ترجمة عبدالله جمعان الغامدي، مطابع جامعة الملك سعود، الرياض، 2002م.
ثانيا: المراجع الأجنبية/
Agyeman, Julian & Others. Exploring the Nexus: Bringing Together Sustainability Environmental Justice and Equity, Space & Polity, Vol. 6, No. 1, 2002, 77–90
Anderson, Terry and Donald Leal, Free Market Environmentalism. San Francisco: Pacific Research Institute for Public Policy, 1991.
Athanasiou, Tom. Divided Planet: The Ecology of Rich and Poor. Athens: University of Georgia Press, 1996.
Brown, L.R. The Future of Growth” in State of the World Report 1998. The Worldwatch Institute, 1998. 01-21.
Buckingham S. Ecofeminism in the Twenty-First Century. Geographical Journal.170, Issue 2, 2004, 146-154
Christoff, P. Ecological Modernization. Environmental Politics, Vol. 5, No. 3, 1996, 476-500.
Coates, J. Ecology and social work: Toward a New Paradigm. Halifax: Fernwood Press, 2003a.
Coates, J. Exploring the Roots of the Environmental Crisis: Opportunity for Social Transformation. Critical Social Work, 3(1), 2003b, 44-66.
Connelly, J. and G. Smith. Politics and the Environment: From Theory to Practice, London: Routledge, 1999.
Dryzek, J. S. The Politics of the Earth: Environmental Discourses. Oxford: University Press, 1997.
Durning, A. Asking How Much is Enough. In Lester Brown et al. State of the world 1991. New York: Norton, 1991.
Eckersley R. Environmentalism and Political Theory: Towards an Ecocentric Approach. London: UCL Press, 1992.
Fowke R and Prasad D, 1996. Sustainable development, cities and local government. Australian Planner 33 61–6.
French P. W. The Changing Nature of, and Approaches to UK Coastal Management at the Start of the Twenty-First Century. Geographical Journal.170 issue 2, 2004, 116-125.
Gibbs, D. Ecological Modernization, Regional Economic Development and Regional Development Agencies. Geoforum, Vol. 31, 2000, 9-19.
Goldsmith, Edward, et al. The Future of Progress: Reflections on Environment and Development. Dartington: Green Books, 1995.
Grosskurth, J. & J. Rotmans. The Scene Model: Getting Grip on Sustainable Development in Policy Making. Environment, Development and Sustainability, 7, no.1, 2005,135–151.
Grubb, M. International Emissions Trading Under the Kyoto Protocol: Core Issues in Implementation. RECIEL 2,1998, 140-146.
Hajer, M. A. The Politics of Environmental Discourse: Ecological Modernization and the Policy Process. Oxford: Oxford University Press,1995.
Hajer, M. A. `Ecological Modernization as Cultural Politics', in Lash, S. et al. Risk, Environment and Modernity: Towards a New Ecology. London: Sage, 1996.
Hau, J.L. and B.R. Bakshi. Promise and Problems of Emergy Analysis. Ecological Modelling 178(Special Issue), 2004, 215-225.
Hawken, P. The ecology of commerce. New York: Harper Business, 1993.
Henderson H. Beyond globalization: shaping a sustainable global economy. London: Kumarian Press, 1999.
Levin, A. I. Sustainable Development and the Information Society. Russian Studies in Philosophy, 45, No. 1, Summer 2006, 60-71.
Low, Nicholas and Brendan Gleeson. Justice, Society and Nature: An Exploration in Political Ecology. London: Routledge, 1998.
Lowe, I. Globalization, Environment and Social Justice. Social Alternatives, 23, no.4, 2004, 37-41.
McNaghten, P. and Urry, J. Contested Natures. London: Sage, 1998.
Meadows, D. et al. The Limits to Growth: A Report to the Club of Rome’s Project on the Predicament of Mankind. New York, 1972.
Mol, A. P. Ecological Modernization and the Environmental Transition of Europe: Between National Variations and Common Denominators. Journal of Environmental Policy and Planning, Vol. 1, No. 2, 1999, 167-181.
Morehouse W. ed. Building Sustainable Communities: Tools and Concepts for Self-reliant Economic Change. Charlbury: Jon Carpenter, 1997.
Naess A. The Deep Ecology Movement: Some Philosophical Aspects. Philosophical Inquiry, III ,1986, 10–31.
Pallmearts, M., “International Environmental Law from Stockholm to Rio: Back to the Future?” Reciel Vol. 1, No. 3 (1992).
Roberts, P. W. Wealth from Waste: Local and Regional Economic Development and the Environment. Geographical Journal 170, Issue 2, 2004, 126-134.
Rogers, R. Nature and the Crisis of Modernity. Montreal: Black Rose. 1994.
Ruether, Rosemary Radford. New Woman/New Earth: Sexist Ideologies and Human Liberation. New York: Seabury, 1975.
Russell, P. Waking up in Time: Finding Inner Peace in Times of Accelerating Change. Novato, CA: Origin Press, 1998.
Salleh, Ariel. Ecofeminism as Politics: Nature, Marx and the Postmodern. London and New York: Zed Books, 1997.
Sands, P. International Law in the Field of Sustainable Development: Emerging Legal Principles, pp. 53-66. in Lang, W. (ed.) Sustainable Development and International Law. London/Dordrecht/Boston: Graham & Trotman/Martinus Nijhoff, 1995.
Shiva, V. Staying Alive: Women, Ecology and Development. London: Zed Books, 1988.
Spretnak, C. The Resurgence of the Real. Ontario: Addison-Wesley: Don Mills,1997.
Starr, A. Naming the Enemy: Anti-Corporate Movements Confront Globalization, Sydney: Pluto Press, 2000.
United Nations Development Programme (UNDP), Human Development Report, 1995, New York: Oxford University Press, 1995.
Warren, Karen J. "Feminism and Ecology: Making Connections," Environmental Ethics 9 (1) ,1987, 3-20.
Warren, Karen J. The Power and Promise of Ecological Feminism. The Journal of Environmental Ethics. 12 (Summer), 1990, 125-146.
Warren, Karen. Ecofeminism: Women, Culture, Nature. Bloomington: Indiana UP, 1997.
WCED (World Commission on Environment and Development), Our Common Future, Oxford: Oxford University Press, 1987.
Wenz, Peter. Environmental Justice. New York: State University of New York Press, 1988.
Zimmerman, M. E. Feminism, Deep Ecology and Environmental Ethics. Environmental Ethics. 9, 1987, 21–44.
نرجو منكم الدعاء فقط