هناك نوعين من العرف: العرف العادي والعرف الدستوري وهذا الأخير يأخذ العديد من الأشكال والأنواع وهو ما سنبيّنه تفصيلا فيما يلي:
العرف بمفهومه العادي يعرفه الفقهاء وعلماء الاجتماع وأصحاب الرأي بأنه ما استقرت عليه النفوس بشهادة العقول، وتلقته الطبائع بالقبول وكذلك العادة كما يقول "الجرجاني"؛ وقال "النسفي" : العرف والعادة ما استقر في النفوس من جهة العقول وتلقته الطبائع السليمة بالقبول.
ومن الواضح أن هذين التعريفان متقاربان لكن "النسفي" جمع في تعريفه بين العرف والعادة، في حين "الجرجاني" عرّف العرف ثم عطف عليه العادة، ولكن أهم فعل "النسفي" (وهو فقيه) هو أن وصف الطبائع بالسلامة أي تكون سليمة ولم يصبها أي انحراف، وهذا القيد قرّب العرف على ما أرى من نظرة الشريعة الإسلامية للعرف باعتبار أن الطبيعة السليمة هي (فطرة الله التي فطر الناس عليها ) الآية 30 من سورة الروم.
وأحدث التعاريف للعرف ما تعارف الناس عليه وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك.
والعرف ما ألفه الناس في معاملاتهم واستقامت عليه أمورهم، والأعراف والعادات من صنع الجماعات البشرية فهي أداة طبيعية تستخدمها الجماعات بالقدر و الغرض الذي تريد، ويتم كل ذلك بطريقة آلية، مما يجعلها أي الأعراف مقبولة من الجميع ((لأن العمل الآلي هو الأنسب الذي يستجيب به الإنسان للمثير الخارجي)) وهذا ما تختلف فيه الأعراف عن بقية الشرائع والقوانين التي تفرض في الغالب على الناس فرضا بينما تعتبر الأعراف والعادات من نتاج الانتخاب الطبيعي لألوان السلوك التي تثبت صلاحيتها في المجتمع.
ولهذا كان الإنسان أكثر ميلا إلى عاداته وأكثر نزوعا إليها لدرجة أنه خضع لأحكامها حتى في المسائل العامة مثل المساس بالشرف وقتل النفس والاعتداء على الممتلكات بمختلف أنواعها ونحو ذلك، فالأعراف من خصائص الجماعات البشرية منذ وجود هذه الجماعات، وسارت في طريق الحضارة، ولعل الأعراف والعادات كانت من وسائل تقدم الإنسان ذاته، حيث أن الأعراف ما هي في الحقيقة إلا نوع من التجربة، ومظهر خارجي لبعض جوانب الفكر، حتى لقد اعتبرت من معايير تقدم الجماعة ومن عناوين حضارتها وذلك لما في الأعراف وقيمتها الذاتية، ونوعية هذه القيم من الدلالة على ما تمارسه الجماعة من ألوان النشاط وأنماط السلوك، ولعل من البديهي القول أن المقصود من الأعراف إنما هو نوعها أو جنسها لأفرادها المتغيرة.
هل العرف ثابت أم قابل للتحوير والتطوير ؟
الأعراف في هذا تشبه الكائنات الحية من حيث التعاقب، إذ يذهب الأفراد ويبقى النوع، وهذا من مزايا الأعراف أيضا، إذ ما تكاد الجماعة أن فردا من أفراد العرف قد أصبح يشل حركتها حتى تترك العمل به فيندثر تلقائيا، وتفرز الجماعة غيره من الأعراف ما يكون أكثر استجابة لحاجتها وأقرب إلى روح عصرها.
ويشترط في العرف عموما الركن المادي المتمثل في التكرار والركن المعنوي المتمثل في الشعور بالإلزامية وعدم مخالفة العرف للنظام العام والآداب العامة ويضاف الى هذه الأركان بالنسبة للعرف الدستوري أن يكون مصدره إحدى السلطات العامة المعروفة (رئيس الجمهورية، رئيس الحكومة، رئيس الوزراء، البرلمان...) وبذلك يختلف العرف الدستوري عن العادي في كون الأول عام لكل أرجاء الدولة بينما العرف العادي يختلف من منطقة الى أخرى، كما يشترط في العرف الدستوري أن لا يكون قد نشأ في ظرف استثنائي وأن لا يكون متناقضا أو مخالفا لنص دستوري مكتوب.
أما عن أنواع العرف الدستوري فتتمثل في :
أولا : العرف المفسر
1/ ماهية العرف المفسر
يقصد بالعرف المفسر ذلك الذي يقتصر أثره على مجرد تفسير نص غامض أو مبهم من نصوص الدستور وذلك عن طريق إيضاح معناه فالعرف في هذه الحالة يقتصر هدفه على تفسير هذا النص من نصوص الدستور وتحديد معناه وإيضاحه، وهو لا ينشئ قاعدة قانونية جديدة ولا يخرج عن دائرة النصوص المكتوبة وإنما في نطاقها.
ومن المتفق عليه أنه لا مجال للتفسير إلا إذا كان هناك غموض في النص الدستوري، أما إذا كان النص واضحا وجليا وبدون أية شبهة فلا مجال عندئذ للتفسير .
كذلك لا يجوز عن طريق ادعاء التفسير الخروج بالنص عن معناه الأصلي لأن ذلك يتعدى حدود التفسير إلى صور أخرى.
ويعتبر بعض الكتّاب العرف السابق على صدور الدستور وسيلة من وسائل تفسير نصوصه، وذلك ما لم يكن هذا العرف منافيا للمبادئ العامة التي قام على أساسها الدستور الجديد وما لم ينص الدستور على ما يناقض ذلك العرف.
وتبدو أهمية العرف المفسر بصورة خاصة في ظل الدساتير المقتضبة، ومن أدق الأمثلة على العرف الدستوري المفسر، ما حدث في ظل الدستور الفرنسي الصادر علم (1875)، وهو دستور مقتضب، فقد نصت المادة الثالثة منه على أن (رئيس الجمهورية يكفل تنفيذ القوانين)، وقد استقر العمل في فرنسا في ظل هذا النص على أن كفالة تنفيذ القوانين لا تكون إلا بإمكان إصدار اللوائح اللازمة لتنفيذ تلك القوانين، وبذلك تم تفسير النص على إعطاء رئيس الجمهورية حق إصدار اللوائح المختلفة التي تكفل تنفيذ القوانين ،و إن كان هذا النص لا يشير صراحة إلى هذا الحق، ووفقا لما يقوله الفقهاء المسلمون فإن (ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب، وتنفيذ القوانين يكون أساسا عن طريق اللوائح التنفيذية، وفي هذه الحالة فإن العرف المفسر لم ينشئ حكما جديدا ولم يكمل ناقصا وإنما رفع غموضا وأتاح للنص إمكانية التنفيذ السليم.
2/ القيمة القانونية للعرف المفسر
بناء على ما تقدم فإن غالبية الفقهاء ترى إمكانية قيام العرف الدستوري المفسر وعلى أن هذا العرف له ما للنص الدستوري الذي يقوم بتفسيره من قوة.
ولكن هذا العرف يأخذ حكم التفسير في تعديله لمعاني النصوص الدستورية وهذا ما سنفصله فيمايلي:
ثانيا: العرف المكمل
1/ماهية العرف المكمل
يظهر العرف المكمل في حالة وجود نص مكتوب تصدى لموضوع معين بالتنظيم ووضع له أحكامه، ولكنه وضعها بصورة غير كاملة، ويكون دور العرف عندئذ تكملة هذه الأحكام، أو سد ما يكون بالتنظيم الذي وضعه النص من نواحي نقص.
إذن العرف المكمل يملأ الفراغ الذي تركه المشرع الدستوري في أمر من الأمور، وينظم المسائل الدستورية التي أغفل المشرع الدستوري تنظيمها، ومن ثم يكون العرف المكمل منشئا لقواعد قانونية جديدة.
وعلى ذلك فالعرف المكمل يختلف من العرف المفسر، فإذا كان العرف خلاف ذلك ينشئ حكما جديدا ويعالج موضوعا لم يعالجه المشرع الدستوري فيسد النقص في الأحكام الواردة في الدستور ومن ثم لا يستند إلى نص غامض .
ومن الأمثلة الواضحة على العرف المكمل هي القواعد الدائمة للبرلمان، فصلاحيات التشريع تضفي على مجلسين ،ولكن الطريقة التي تمارس بها هذه الصلاحيات تحددها القواعد الدائمة، وهكذا فإن نظام اللجنة للبرلمان الفرنسي في ظل الجمهورية الرابعة لم يؤسس في الدستور بل في القواعد الدائمة للمجلسين – كما كان غليه حال سابقيهما، مجلس النواب ومجلس الشيوخ في ظل الجمهورية الثالثة، وكان نظام اللجنة هذا على أكبر جانب من الأهمية في الحكومة الفرنسية- فقد أثر في صلاحيات مجلس الوزراء، وذهب أبعد من ذلك، بحيث كان سببا في ضعف الوزارات الفرنسية النسبي، وكانت القاعدة القاضية بأن لائحة ما يجب أن تنظر فيها لجنة قبل موافقة الجمعية الوطنية عليها قد وضعت بشكل خاص الحكومة في موقف ضعيف، إذا كان من اليسير على لجنة من اللجان أن تقترح أي تغييرات في اللائحة كانت تعتقد أنها ملائمة.
إن أهمية هذه الأنساق والترتيبات في فرنسا يمكن الحكم فيها إذا نظرنا إلى النظام المختلف في أنظمة الكومنويلث البريطانية هي الأنظمة المصوغة على غرار برلمان بريطانيا. وهذا النظام يعمل هو الآخر بموجب أعراف مجسدة في شكل قواعد دائمة. وتنص هذه القواعد على أن أي لائحة لا تنظر فيها أية لجنة ما لم يكن المجلس قد أجازها في قراءة ثانية، وبهذه الطريقة يمكن أن يحصر عمل اللجنة بمحاولات تعديل اللائحة من حيث المبدأ، لأن المبدأ سبق أن قبله المجلس ، ومزايا هذين النظامين محل نقاش، ولكن ما يهمنا هو أن توازن القوى أو الصلاحيات في العملية التشريعية في دولة ما يمكن أن يتأثر برمته بالعرف. إن قانون الدستور تكملة أعراف تعطيه معنى جديدا .
ولا يمكن فهم العملية التشريعية في هذه الأقطار بدون أن تؤخذ في الحسبان هذه الأعراف علاوة على القانون .
إن تركيب الوزارة ( الحكومة) في بعض الدول تنظمه أو تؤثر فيه العادات أو الأعراف، فعندما يعين رئيس الجمهورية الأمريكي أعضاء في حكومته فهو يملك من الناحية القانونية صلاحية غير مقيدة لتعيين من يشاء من الأشخاص .
ولكنه بموجب عادة في الأقل، يحاول أن يضمن ألا يكون جميع المعينين من الولايات الشرقية أو ولايات الغرب الأوسط، مثلا فقط. أنه يسعى إلى توزيع التعيينات بحيث تمثل بشكل ما المناطق الرئيسية التي يعلق أهمية سياسية عليها .
ومن الصعب التعبير عن هذا بقاعدة ما، ولكن ربما من الصحيح القول بأنه بموجب عرف يحاول أن يدخل على وزارته شيئا من التمثيل الفيدرالي.
2/القيمة القانونية للعرف المكمل
اختلف الفقهاء بشأن القيمة القانونية لهذا النوع من العرف ، فبعض الفقهاء ومنهم ( ديجي ودوفرجي و عبد الحميد متولي) يلحقون العرف المكمل بالعرف المفسر ، ويرون أن هناك علاقة وثيقة بين العرف المفسر والعرف المكمل ويخضعونهما لنفس الأحكام من حيث الاعتراف لكل منهما بقوة قانونية معادلة للقوة القانونية التي لنصوص الدستور المكتوبة، وحجتهم أن العرف المكمل ليس إلا نوعا من العرف التفسيري إذ أنه يفسر من الواقع سكوت المشرع الدستوري عن المسائل التي يقوم ذلك العرف بتفسيرها.
ولكن بعض الفقهاء ومنهم (لافريير) لا يقر لغير العرف المفسر بأية قيمة قانونية في دول الدساتير الجامدة، فلا يعترف بشرعية العرف المكمل بحجة أنه يعتبر في الحقيقة عرفا معدلا للدستور، وأن التعديل قد يكون بالإضافة أو الحذف فالعرف المكمل يعتبر عرفا معدلا بالإضافة ولا يجوز تعديل الدستور الجامد إلا بالطريقة والأوضاع التي نص عليها ذلك الدستور.
وقد اختلف الآراء بين عدد كبير من الفقهاء فيما يجب اعتباره غرفا مكملا ففيما يختص بانتخاب مجلس النواب الفرنسي، نصت المادة الأولى من التشريع الدستوري الصادر في 1875 على أن يكون الانتخاب عاما، أي أن الانتخاب غير مقيد بنصاب مالي أو كفاءة علمية خاصة، وقد أحالت هذه المادة على قوانين الانتخاب في كل ما يتصل بموضوع الانتخاب العام، وكانت هذه القوانين تشترط أن يكون الانتخاب مباشرة أي أن يتم على درجة واحدة – وقد درج على اتباع هذا الشرط في هذه القوانين منذ عام 1848
وقد ذهب بعض الفقهاء بصدد هذه الحالة إلى القول بنشوء قاعدة دستورية أساسها عرف مكمل يقضي بأن يكون الانتخاب العام مباشرة، ولكن فريقا آخر من الكتاب لم يسلم هنا بفكرة العرف المكمل على اعتبار أن هذا النوع من العرف لا يوجد إلا حيث يسكت الدستور عن تنظيم مسألة ما.
ويقول الدكتور كامل ليلة (وفي حالتنا نجد أن الدستور نظم موضوع الانتخاب، هذا التنظيم من جانب المشرع الدستوري يمنع وصف هذا العرف بأنه مكمل ،وإنما يوصف بأنه معدل على اعتبار أنه أضاف جديدا إلى حكم الدستور).
واعتقد أن هذا العرف يمكن اعتباره عرفا مفسرا على أساس أن نص الدستور جاء عاما وهذا العرف وضحه وحدد معناه ويمكن اعتباره عرفا مكملا على أساس أنه أضاف إلى نص الدستور شرطا جديدا ليس فيه، وهو بهذه الإضافة سد نقصا موجودا، فالدستور وإن كان قد نظم موضوع الانتخاب كما ذكر الأستاذ (لافريير) إلا أنه لم ينظمه تنظيما كاملا وغنما أغفل بعض جوانبه، وفي هذه الدائرة التي أغفل المشرع تنظيمها يعتبر العرف الناشئ بصددها عرفا مكملا، وهذا الاتجاه الذي نذهب إليه لا يتعارض في الواقع مع الرأي الذي يعتنقه (لافريير) بخصوص العرف المكمل.
ويقول الفقيه (ديجي) بنشوء قاعدة دستورية مردها إلى عرف مكمل يقضي بضرورة أن يكون الانتخاب العام انتخابا مباشرا في جميع الأحوال.
كما أن الفقهاء الفرنسيين اختلفوا في تكييف العرف الخاص بسلطة رئيس الجمهورية في إصدار اللوائح المستقلة على أنه عرف مكمل للدستور لأن المشرع لم ينظمه بالذات ومنهم من اعتبره عرفا معدلا على أساس أنه أضاف أحكاما تعدل ما؟ أورده المشرع في هذا المجال.
أما الدكتور فؤاد العطار فيقول: ( ونحن نتفق مع الرأي الذي يعتبر العرف المكمل له نفس المرتبة التي للنصوص الدستورية ،ولكننا لا نتفق مع القائلين بهذا الرأي على أساس اعتباره تفسيرا لنصوص الدستور ،بل على أساس أنه ما دام أن الدستور لم يمنع صراحة سلطة معينة من مباشرة هذا الاختصاص ،فيكون للعرف الدستوري أن يكمل هذا النقص عند سكوت المشرع الدستوري وذلك لأنه لا يجوز أن يفسر هذا السكوت على أنه منع من جانب المشرع الدستوري).
ثالثا: العرف المعدل
1/ماهية العرف المعدل
ويقصد به ذلك النوع من العرف الذي يعدل في نصوص الوثيقة الدستورية سواء بإضافة أحكام جديدة إليها أو بحذف أحكام منها .
إذن، نحن أمام نوعين من العرف المعدل:
- العرف المعدل بالإضافة
- والعرف المعدل بالحذف .
أ/العرف المعدل بالإضافة
في هذه الحالة يفترض أن الدستور قد نظم موضوعا معينا إلا أن دور العرف المعدل هنا يكون بإضافة أحكام عرفية تعدل من هذا التنظيم الذي أورده الدستور.
ويختلف العرف المعدل بالإضافة عن العرف المكمل في أن الأول يقوم في ظل نص دستوري قائم ويستهدف بهذه الإضافة تعديل الحكم الدستوري، في حين أن العرف المكمل لا يقوم إلا في حالة سكوت الدستور عن تنظيم أمر معين فهو بذلك يفسر سكوت الدستور ويكمل ما في نصوصه من نقص.
ومن الأمثلة على العرف المعدل بالإضافة، ذلك العرف الذي كان يقضي بمنح الحكومة في مصر – في ظل دستور 1923 – حق إصدار لوائح البوليس (والتي كانت لا تستند في صدورها إلى قانون) لتنظيم الشؤون المتعلقة بالأمن العام أو الصحة العامة أو السكينة العامة.
ولكن المساس بالحريات أو تنفيذها لا يصح إلا أن يكون بناء على قانون فإن بعض الفقهاء المصريين يعطون الحكومة الحق في إصدار لوائح بوليس مؤسسين هذا الحق على عرف دستوري نشأ واستقر في هذا المجال ،خاصة وأن مثل هذا العرف قد نشأ في فرنسا في ظل دستور (1875) وترتب عليه حق الحكومة في إصدار هذا النوع من اللوائح.
ولكن هؤلاء الفقهاء و أن اتفقوا على أن لوائح البوليس لا تعتمد على نص في الدستور و إنما على عرف دستوري، إلا أنهم اختلفوا في تحديد هذا العرف، فالدكتور (عبد الحميد متولي) يقول بأن لوائح البوليس تستند إلى عرف دستوري معدل بالإضافة، ولكن الدكتور (عثمان خليل عثمان) يرى أن هذه اللوائح تستند في أساسها إلى عرف دستوري مكمل، أما الدكتور ( السيد صبري ) فإنه لم يحدد نوع هذا العرف صراحة ولكنه يميل إلى فكرة العرف المكمل، ويقول الدكتور (كامل ليلة): "الواقع أن الخلاف بين الفقهاء المصريين نظري وشكلي محض لا تترتب عليه أية نتيجة، إذ أن العرف المكمل والعرف المعدل بالإضافة يختلطان ويتفقان في معنييهما، ولا يوجد بينهما خلاف جوهري ،والمسألة لا تتجاوز في حقيقتها مجرد الخلاف في التسميات".
وقد حسم هذا الخلاف بصدور الدستور عام ( 1956) حيث نصت المادة ( 138) على مايلي:
(يصدر رئيس الجمهورية لوائح الضبط واللوائح اللازمة لتنفيذ القوانين...)
كذلك من أمثلة العرف المعدل بالإضافة تفويض البرلمان الفرنسي السلطة التنفيذية في وضع قواعد عامة عن طريق المراسيم سنة (1875)، فالمادة الأولى من دستور 1975 نصت على الاختيار المطلق للبرلمان بالسلطة التشريعية الأمر الذي يعني أنها تحرم تفويض البرلمان لهيئة أخرى بهذه السلطة، ومع ذلك فقد جرى العرف على قيام البرلمان بهذا التفويض، لذلك نصت المادة (13) من دستور ( 1946) على أن الجمعية الوطنية هي التي تملك حق التصويت على القوانين ولا تملك أن تفوض غيرها هذا الحق..
بـ/العرف المعدل بالحذف
يهدف العرف المعدل بالحذف إلى إسقاط حق من الحقوق أو اختصاص من الاختصاصات التي يقررها الدستور لهيئة من الهيئات، وصورة ذلك أن يجري العمل على عدم استعمال هيئة من الهيئات لحق من حقوقها المقررة في الدستور.
يقول الفقيه (وير): ( أن العرف يؤثر في قانون الدستور بإبطال نص من نصوصه وهو يشل ذراع القانون... ولا بد من التأكيد انه لا يعدل القانون ولا يلغيه وهو لا يبتر الطرف بل يجعل استعماله مستحيلا فقط ...).
إننا نعتقد أنه ما دام هذا الشلل دائما وهناك استحالة مطلقة في تطبيقه فهو لا يختلف في مضمونه عن الحذف ( أو الإلغاء ) بطرقة التعديل الرسمي.
ومن الشهيرة على هذا التأثير هو أن الصلاحية القانونية لرئيس الدولة لاستخدام حق النقص أو الامتناع عن الموافقة على القوانين التي يجيزها البرلمان تبطل بالعرف وذلك في العديد من الدساتير. ففي دساتير الدانمرك والنرويج والسويد، للملك صلاحيات معينة لرفض الموافقة على اللوائح التي يجيزها البرلمان، ولكن المتفق عليه أنه لا يجوز له أن يمارس هذه الصلاحيات ،وكانت المناسبة الأخيرة التي رفض فيها ملك الدانمرك الموافقة على إحدى اللوائح هي في عام (1865)، وبالرغم من أن ملك السويد استخدم حق الفيتو ضد لائحة في عام (1912) فهو لم يتصرف إلا وفق نصيحة الوزراء. وفي هولندا وبلجيكا كانت صلاحيات الملك في وقف مشروع القانون قد أبطلت بعرف.
ومن الأمثلة المهمة على الطريقة التي يمكن أن تبطل برها صلاحية قانونية بعرف ما، هو المثل الذي يقدمه لنا تطبيق دستور الجمهورية الفرنسية الثالثة. فقد احتوى الأخير على نص مفاده أن لرئس الجمهورية، بموافقة مجلس الشيوخ، أن يحل مجلس النواب ،ولكن هذه الصلاحية لم تستخدم إلا مرة واحدة في عام ( 1877) أي بعد سنتين من تأسيس الجمهورية ،من قبل الرئيس (مكماهون)، ولم تستخدم ثانية البتة، ولم يكن هناك تفكير في أن من الملائم استخدامها ثانية ،وكانت الظروف التي حل فيها (ماكمهون) المجلس والخلاف الذي أعقب الحل قد جعلت الأمر يبدو وكان أية محاولة من الرئيس لحل المجلس ستؤلف هجوما على النظام الجمهوري ،وعن طريق العرف أيضا، سرعان ما أصبح الرئيس يحتل مكانا في الدستور مماثلا لمكان الملك في مملكة ديمقراطية، وأصبحت صلاحيته لاقتراح إجراءات من هذا النوع مبطلة وبعد ذلك لم يباشر حق الحل حتى عام (1940) عندما احتلت القوات النازية فرنسا.
ويذهب غالبية الفقهاء الفرنسيين إلى أن عرفا معدلا للدستور أسقط النص الذي يعطي رئيس الجمهورية حق الحل. إلا أن العميد (هوريو) يخالف هذه الغالبية في رأيهم ،وحجته في ذلك أنه لا يوجد عرف معدل للدستور في هذه الحالة، وأنه لا يعدو أن يكون نوعا من عدم الاستعمال فقط، لأن حق الحل أساسي في الأنظمة البرلمانية ،ولا يمكن للعرف أيا كانت قوته أن يصل إلى إسقاط هذا النص الذي يستند إلى ما يسميه (هوريو) (القانون المشترك) في الأنظمة الدستورية البرلمانية، لذا فإن هوريو برى أنه لا مانع يمنع (وكان يكتب ذلك في ظل دستور 1875) من أحياء هذا الحق واستعماله وأن النص الذي هجر يمكن أن يستيقظ من جديد.
كذلك يقول الدكتور عبد الفتاح حسن: " غير انه لا يخفى أن عدم استعمال نص معين في دستور جامد مدة طويلة يجعل من العسير بعد ذلك العودة إلى استعماله بيد أنها صعوبة عملية وليست صعوبة قانونية"، فلم يكن هناك ما يمنع قانونا رئيس الجمهورية في فرنسا الإقدام على حل مجلس النواب طوال العمل بدستور (1875) أي حتى عام ( 1940) ولكن على أن يواجه الرأي العام الذي اعتاد عدم استعمال مثل هذا الحق .
وفي انجلترا لم يمارس الملك سلطته في رفض التصديق على القوانين منذ عام (1707)، ويرى الفقهاء أن سلطة الملك في رفض التصديق على القوانين قد ألغيت بناء على عرف دستوري نشأ واستقر بخصوص هذا الموضوع. ويذهب بعض الفقهاء الإنجليز إلى أن استخدام الملك الآن هذا الامتياز ليس دستوريا .
إن الجمهورية الفرنسية الثالثة والولايات المتحدة قدمتا مثلا مهما على ما كان يبدو (إبطالا للصلاحيات القانونية الممنوحة)، أو التي هي على أية حال غير منكرة أو ممنوعة في الدستور ،التي يمكن أن يكون شيئا من الجدل بشأنها. وكانت هذه الصلاحيات هي القيود المزعومة المفروضة بعرف على إعادة الانتخاب لمنصب الرئيس، ففي دستور الجمهورية الثالثة كان هناك نص على أن رئيس الجمهورية ينتخب بأغلبية مطلقة في اجتماع مشترك لمجلس الشيوخ ومجلس النواب وانه يحق إعادة انتخابه. وفي الدستور الأمريكي،كان يبدو أنه لا يوجد قيد على حق الرئيس ليرشح نفسه لإعادة انتخابه. فما الذي حدث في الواقع؟ حتى عام (1939) بدا وكان غرفا استقر في فرنسا مفاده أن الرئيس لا ينبغي له أن يرش ح نفسه لإعادة انتخابه ،وإنما يجب أن يكتفي بفترة واحدة لمنصبه ( سبع سنوات) .
وفي الولايات المتحدة، بدا أن هناك عرفا يفيد بأن الرئيس لا ينبغي له أن يرشح نفسه لإعادة انتخابه أكثر من مرة واحدة. ولكن في عام (1939) أعيد انتخاب السيد (ليبرن) رئيس الجمهورية الفرنسية لفترة ثانية عند انتهاء فترة السنوات السبع الأولى، وفي عام (1940) انتخب (فرانكلين روزفلت) لفترة ثالثة رئيسا للولايات المتحدة، وفي عام (1944) لفترة رابعة، فما مغزى أو أهمية هذه الأحداث؟ هل يعني أن ما ظهر في فرنسا حتى عام (1939) وفي الولايات المتحدة حتى عام (1940) وكأنه عرف كان في الحقيقة مجرد عادة؟ أم أن الأدق أن العرف وجد حتى ذلك التاريخ وكان قد عدل أو ألغي بل خرق بالإجراء الذي اتخذ في عام (1939) في فرنسا وفي عام (1940) في الولايات المتحدة؟ أم أن التفسير الحقيقي هو أن العرف قد نص على مجرد إعادة الانتخاب فترة ثانية في فرنسا وفترة ثالثة في الولايات المتحدة يجب، كقاعدة عامة وفي الظروف العادية، ألا يقع ،على اعتبار أن من المفهوم أن الظروف الاستثنائية تجيز وتسوغ الاستثناءات في القاعدة العامة؟ إن هذا التفسير الأخير يلقى الدعم من حقيقة مفادها أن أولئك الذين اقترحوا في فرنسا في عام (1939) إعادة انتخاب (ليبرن) سوغوا الإعادة على أساس الحالة المتأزمة للشؤون الأوربية، بينما سوغ ترشيح الرئيس (روزفلت) في الولايات المتحدة عام (1940) لفترة ثالثة بسبب الحاجة إلى الاستمرار على توجيه شؤون الولايات المتحدة حينما كان خطر الحرب على وشك الوقوع، وهي حجة كانت أقوى عام (1944) لان الولايات المتحدة كانت في ذلك العام تشارك في الحرب مشاركة كاملة .
ويبدو أن من الصحيح الاستنتاج إذن أن عرفا نشأ في فرنسا والولايات المتحدة معا هو ضد إعادة الانتخاب لفترة ثانية وثالثة على التوالي .واعترف الرؤساء الفرنسيون عادة بهذا العرف وذلك بإعلانهم عند الانتخاب أنهم لن يرشحوا أنفسهم لإعادة انتخابهم .وفي الولايات المتحدة كان هناك دائما من الشك بشأن ما إذا كان نائب الرئيس الذي ورث منصب الرئاسة عند وفاة الرئيس، واستطاع الإدعاء إذن بأنه لم ينتخب كرئيس بوصفه رئيسا وبأنه لم يمض فترة كاملة في منصب الرئيس، يستطيع ترشيح نفسه للانتخاب لفترتين بحكم حقه الشخصي. ولكن بغض النظر عن هذا الغموض،لا يوجد شك يذكر بأنه كان هناك عرف يمنع الفترة الثالثة. والوا قع أن إعادة انتخاب الرئيس ( روزفلت) فترة ثالثة ومن ثم رابعة أكدت الاعتقاد السائد بين الساسة في الولايات المتحدة بأن القاعدة المجسدة في هذا العرف كانت صحيحة وأن خطوات اتخذت، لتحويل هذا العرف إلى قانون ،وفي الجمهورية الفرنسية الخامسة ينبغي أن نلاحظ أن الدستور ساكت عن مسالة إعادة انتخاب الرئيس، ومن الأمثلة أن نرى ما إذا كان سينمو اعتياد أو عرف يحددان الرئيس بفترة واحدة ويلغيان حقه في ترشيح نفسه لفترة أخرى.
2/القيمة القانونية للعرف المعدل:
لم يتفق الفقهاء بصدد مشروعية العرف المعدل وتحديد قيمته القانونية حيث تنازع الإجابة عن ذلك ثلاثة آراء متمايزة:
الرأي الأول: الإقرار بمشروعية العرف المعدل
يؤيد بعض الفقهاء مشروعية العرف المعدل ،وحجتهم في ذلك أن العرف في حقيقته هو التعبير المباشر عن إرادة الأمة، وبما أن الأمة هي صاحبة السيادة فيجب أن تكون هي السلطة التأسيسية العليا، ولما كانت القاعدة العرفية تستمد قوتها من هذه السلطة فيجوز لها أن تلغي نصا دستوريا أو تعدله.
أما عن مدى قوة هذا العرف فذهب بعض الفقهاء إلى القول أن للعرف المعدل قوة النصوص الدستورية، بينما يذهب البعض الآخر إلى القول بان للعرب المعدل قوة أقل من قوة النصوص الدستورية ،أي أن له قوة التشريعات العادية فقط.
وذلك على أساس أن القوانين العادية والعرف يمثلان إقرار المشرع العادي بالتشريع بوصفه تعبيرا عن إقراره الصريح وبالعرف بوصفة تعبيرا عن إقراره الضمني، ويضيف هؤلاء أن الإقرار للعرف المعدل بقوة النصوص الدستورية المكتوبة يتعارض مع المقصود من جعل الدستور جامدا والذي يستوجب إجراءات خاصة لتعديله.
الرأي الثاني: عدم الإقرار بمشروعية العرف المعدل
يقول بعض الفقهاء بعدم مشروعية الرف المعدل بحجة أن العرف المعدل إذ ينصرف أثره إلى إنشاء قواعد تتعارض مع ما أورده المشرع من أحكام يتعارض مع فكرة الدستور المدون،وخاصة النوع الجامد الذي يتطلب إجراءات خاصة لتعديله تقوم بها سلطة محددة ،وعلى ذلك فإن هؤلاء الفقهاء يرون أن القول بإنشاء عرف معدل لأحكام الدستور يعد انتهاكا للنصوص الدستورية وخرقا للحصانة التي أعطاها المشرع للدساتير الجامدة وإعلاء لإرادة السلطات الحاكمة على إرادة الشعب التي يمثلها الدستور وما ينص عليه من إجراءات وشروط خاصة لإجراء التعديل .
ويضيف أصحاب هذا الرأي ،في ردهم على خصومهم ،بأن العرف الدستوري هو تصرف صادر عن هيئة حاكمة وليس صادرا عن الأمة ،وأن الأمة صاحبة السيادة لا تباشر هذه السيادة في ظل الديمقراطيات النيابية إلا وفق الإجراءات الخاصة والمقررة لذلك وعن طريق الهيئات ذات الإختصاص المقرر لها في الدستور، ويضيف هؤلاء أيضا أن العرف في انكلترا لا يستطيع أن يعدل أو يلغي إلا قاعدة عرفية دون القانون الصادر من البرلمان.