القسم الأول : الأصول والمبادئ العامة
الباب الأول:ماهية القانون الدولي العام
الفصل الأول: تعريف القانون الدولي العام
إن القانون الدولي ليس وليد العصر الحالي، بل مر بعدة تطورات ومراحل إلى أن وصل إلى شكله الحالي. ولقد اختلف الفقهاء حول تسمية هذا القانون حيث أطلق عليه البعض اسم قانون الأمم وأطلق عليه البعض الآخر اسم قانون الشعوب، ولكن التسمية التي نفضلها هي القانون الدولي لأنها تبرز أهمية من خصائص هذا الفرع من فروع القانون.
ولقد اختلف الفقهاء أيضاً حول تعريف القانون الدولي ولكننا نستطيع أن نعرفه بأنه "مجموعة القواعد القانونية الاتفاقية الصادرة نتيجة التراضي الصريح أو الضمني للدول، والتي تنظم المجتمع الدولي وتكون ملزمة لجميع الدول في تصرفاتها على المستوى الخارجي، كما تحدد حقوق كل دولة وواجباتها في مواجهة غيرها من الدول".
ويختلف القانون الدولي عن الداخلي في أن الأخير ذو طابع إقليمي حيث يطبق داخل إقليم الدولة التي وضعته في حين أن القانون الدولي يطبق على المستوى الخارجي حيث ينظم علاقات الأشخاص الدولية.
الفصل الثاني : القانون الدولي العام والقانون الدولي الخاص
على الرغم من اشتراك القانونين في الصفة الدولية إلا أنه لكل منهما موضوعه ومجال تطبيقه.
أولاً- القانون الدولي العام:
ينظم القانون الدولي العام العلاقات المتبادلة ما بين الأشخاص الدولية، حيث يبين أشكال الدول وحقوقها وواجباتها وكيفية حل المنازعات فيما بينها، ومن أهم فروعه:
1- القانون الدولي الإنساني:
هو مجموعة القواعد القانونية التي تكفل حماية حقوق الإنسان واحترام حرياته الأساسية وتعميق مفهوم التعاون الدولي بهدف القضاء على الحرب والحفاظ على السلم والأمن الدوليين.
2- القانون الدولي للبحار:
ويشمل مجموعة القواعد القانونية لاستخدام البحار واستغلال ثرواتها الطبيعية.
3- القانون الدولي الجوي:
وينظم الطيران واستخدام الفضاء الجوي والخارجي.
4- قانون الإجراءات الدولية:
ويضم مجموعة القواعد المنظمة لإجراءات التسوية السلمية للمنازعات الدولية وأهمها إجراءات التحكم والتسوية القضائية.
5- القانون الدولي للتنمية الاقتصادية:
ويضم القواعد المنظمة للعلاقات الدولية الاقتصادية.
6-قانون النزاعات المسلحة:
وهو مجموعة القواعد المنظمة لسير الحرب وإنهائها والالتزامات والحقوق المتبادلة للمتحاربين خلالها وحقوق والتزامات الدول المحايدة.
7-القانون الدستوري الدولي:
ويضم الوظائف والاختصاصات وتوزيع السلطة بالنسبة للمنظمات الدولية.
8-القانون الدولي الجنائي:
ويضم القواعد المتعلقة بتنظيم الاختصاص القضائي الجنائي الذي تدعيه الدول على المواطنين والأجانب، ومحاكمة المجرمين الدوليين في الجرائم الدولية.
ثانياً- القانون الدولي الخاص:
هو ذلك الفرع من القانون الداخلي الذي يحدد جنسية الأشخاص التابعين للدولة والموطن ومركز الأجانب وحلول تنازع القوانين وتنازع الاختصاص القضائي الدوليين.
ويعتبره غالبية الفقهاء فرع من فروع القانون الداخلي لأن صلته بالتشريعات الوطنية أقوى من صلته بالقواعد المنظمة للعلاقات الدولية.
في حين أن جانب من الفقه يعتبره جزءاً من القانون الدولي العام لأن الدول ليست حرة بشكل مطلق في وضع أحكام القانون الدولي الخاص لأنها تلتزم باحترام قواعد العرف الدولي والمعاهدات الدولية التي تدخل في نطاق هذا القانون وخاصة تلك التي تنظم مركز الأجانب وقواعد اكتساب وفقد الجنسية.
الفصل الثالث : أساس القانون الدولي العام
الاتجاه الأول- الدين المسيحي أساسا القانون الدولي:
واستند أصحاب هذا الاتجاه إلى ما جاء في معاهدة باريس عام 1815.
نقـد:
يؤدي إلى استبعاد الدول غير المسيحية كتركيا مثلاً ويتناقض مع الأفكار الحديثة التي تفصل بين الدين والدولة.
الاتجاه الثاني- المنفعة هي أساس القانون الدولي:
نقـد:
يخلط هذا الاتجاه بين السياسة التي أساسها المنفعة وبين القانون الدولي.
الاتجاه الثالث- الموازنة السياسية:
وهي توازن القوى العظمى لإنهاء الأزمات السياسية وإنهاء الحروب الطاحنة ولقي هذا المبدأ تطبيقاً في أوربا بعد معاهدة وستفاليا.
نقـد:
لا يكفي ليكون أساساً للقانون الدولي الذي يبنى على اعتماد الدول المتبادل على بعضها من النواحي الاقتصادية والثقافية والاجتماعية واستقلال كل دولة من الناحية السياسية.
الاتجاه الرابع- مبدأ الجنسيات:
روج لهذا المبدأ ماشيني وجمع كبير من الكتاب الإيطاليين ويقوم على أن كل جنسية لها الحق في أن تنتظم في شكل دولة، وهذا المبدأ يضمن حفظ الأمن والسلام بحسب رأي أنصاره.
نقـد:
لا يكفي ليكون أساساً للقانون الدولي الذي يبنى على اعتماد الدول المتبادل على بعضها من النواحي الاقتصادية والثقافية والاجتماعية واستقلال كل دولة من الناحية السياسية.
الاتجاه الخامس- مبدأ تقرير المصير:
ويعني هذا المبدأ حق الأمة الطبيعي في اختيار السلطة التي تذعن لها بالسيادة وأول من روج له الرئيس الأمريكي "ولسن".
نقـد:
لم يجد هذا المبدأ مجالاً للتطبيق حتى من الرئيس "ولسن" ذاته ولقد أدركته فيما بعد معاهدات الصلح وحجة الدول في ذلك كانت أن تنفيذ هذا المبدأ يعرض سلامة الدول للخطر ويشجع على تفتيت الدول والنزعات الانفصالية.
الاتجاه السادس "الراجح" حاجة الإنسان للاجتماع وضرورة الاتصال بين البشر:
إن تشعب الحاجات وتنوع الثروات أدى إلى خلق نوع من الحاجة إلى وجود علاقات اقتصادية وتجارية بين معظم الدول وكلما زادت الدول تمدناً زادت الحاجة إلى معاونة الدول الأخرى لها ولابد من وجود تنظيم لهذه العلاقات وهذا يعتبر من أهم عوامل السلام العالمي الذي تسعى كل دولة إلى توطيد لما لها من مصالح متبادلة في تجنب الحروب والمنازعات. ومن هذه النقطة يظهر أساس للقانون الدولي. ولا يشترط أن تكون الدول متساوية من حيث المساحة أو السكان أو التقدم بل يكفي أن تكون عضواً في جماعة الدول المنظمة التي بلغت درجة من المدنية
الباب الثاني : نشأة القانون الدولي العام وتطوره
الفصل الأول : الخلفية التاريخية للقانون الدولي العام
لقد كان هناك في المجتمعات البدائية علاقات غير معقدة لذلك كانت قواعد القانون الدولي تتسم بالبساطة ولكن هذه القواعد لم تكن كما هي عليه في الشكل الحالي حيث ظلت بهذه البدائية إلى أن ظهرت الدولة الحديثة، حيث أن القانون الدولي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بظهور نظام الدولة الحديثة ولذلك فإن فهم طبيعة القواعد القانونية الدولية يقتضي تتبع ظروف نشأة الدولة الحديثة ومعالمها الأساسية.
أولاً- ظهور الدولة الحديثة:
لقد أصبحت المجتمعات الإنسانية مستقلة عن بعضها البعض حيث لكل واحدة سكانها وإقليميها وسلطتها العامة، ولكن ذلك جاء بشكل تدريجي، حيث صادف ظهور الدولة والسلطة الحاكمة عدة عقبات أهمها:
قلة عدد السكان وتناثرها في أنحاء مختلفة، والظروف الاقتصادية الصعبة، وأهم هذه العوامل على الإطلاق وجود النظام الإقطاعي وسيطرة الكنيسة.
النظام الإقطاعي:
لقد كنت السلطة في الممالك الإقطاعية موزعة بين الملك وبين الأمراء الإقطاعيين، حيث كان لكل أمير إقطاعه لخاص الذي يسيطر عليه ويدافع عنه بل كان يدخل في معارك مع الأمراء الآخرين لتوسيع نفوذه وللبحث عن الموارد الاقتصادية أو الاجتماعية أو الدفاعية الأفضل، أمام هذا التمزق لم يكن المالك قادراً على التعبير عن إرادة موحدة للمملكة، حيث يصعب وصف المملكة الإقطاعية بالدولة بالمفهوم المعاصر، لأن السلطات كانت موزعة بين الأمراء الإقطاعيين والدولة الحديثة تقتضي تجمع السلطات في يد حكومة واحدة تهيمن على المملكة بجميع مقاطعاتها وتمثلها في الداخل والخارج، ولكن على الرغم من أن النظام الإقطاعي كان حائلاً دون التحول إلى نظام الدولة الحديثة، فإن المساوئ التي صاحبت هذا النظام، والضعف والتفكك الذي ساد هذه الإقطاعيات أدى إلى حتمية التغيير نحو النظام الدولة الموحدة.
سيطرة الكنيسة:
كان النظام السياسي للجماعة الإنساني في الغرب في العصور الوسطى يقوم على دعامتين:
السلطة الدنيوية والسلطة الدينية ويقوم بالنهوض بهما الإمبراطور والبابا ولقد كانت الكنيسة تطالب بالولاء لتعاليهما التي لم تكن تنحصر فقط في التعاليم الدينية بكل كانت تشمل شئون الحياة الدنيوية الأخرى، ولقد كان هناك صراع بين الملك والكنيسة حول ذلك إلى أن انتهى هذا الصراع بتوقيع صلح وستفاليا عام 1648 الذي يعد بداية انتقال السلطة من الكنيسة إلى الدولة بشكلها الجديد ثم زالت آخر عقبة كانت تعترض طريق ظهور الدولة الحديثة بانتصار الملك على البابا في فرض سلطاته على الشئون المدنية.
وأخطر ما واجه الدول عدم وجود رقابة على علاقاتها المتبادلة من جهة وتحللها من المبادئ والمثل العليا من جهة أخرى نتيجة استقلالها عن الكنيسة. ولقد اكتشفت الدولة ضرورة وجود التعاون فيما بينها للحفاظ على بقائها وذلك نتيجة ظروف كل دولة واحتياجاتها للدول الأخر من النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية ومن جهة أخرى للحفاظ على سيادة الدولة يجب أن تمتنع كل دولة عن الاعتداء على الدول الأخرى والامتناع عن حل المنازعات عن طريق استخدام القوة.
وأمام ذلك يجب عليها الخضوع إلى مجموعة من الضوابط الموضوعية بشأن تنظيم المعاملات والعلاقات المشتركة بينها، هذه الضوابط تأخذ شكل قواعد تتفق الدول على الالتزام بها فيما يقوم بينما وبين غيرها من الدول من علاقات التعاون وتبادل المصالح.
ثانياً- نظرية السيادة:
بعد ظهور فكرة الدولة، كان لا بد أن يكون هناك مساواة ما بين الدول ويترتب على ذلك ألا يكون لإحدى الدولة سلطة على دولة أخرى وأمام ذلك حدث تطور فكري في نظرية سيادة الدولة.
والسيادة نظرية قانونية ارتبطت بنشأة الدول القومية في أوربا، ولكنها ظهرت في بادئ الأمر كمبدأ سياسي ينادي باعتبار الملك هو صاحب أدنى سلطة في الدولة.
نظرية بودان في السيادة:
أول من قال بنظرية السيادة هو المفكر الفرنسي جان بودان، حيث عرف السيادة بأنها السلطة العليا والمطلقة للملك على المواطنين والرعايا والتي لا يقيدها إلى الله والقانون والهدف من ذلك كان التحرر من النظام الإقطاعي وسيطرة الكنيسة.
وأهم مظاهر للسيادة هو سلطة إصدار القوانين من قبل الملك وبالتالي فهو لا يخضع لها بما أنه هو الذي أصدرها وبالتالي يكون الملك أعلى سلطة في الدولة، ولكن سلطته مطلقة بل تخضع للقوانين الإلهية والقانون الطبيعي والقوانين الأساسية للدولة وتعني الأخيرة القوانين التي لا يضعها الملك وتقرر من الذي يحكم ومن الذي يضع في يده كل السلطات والحدود التي تمارس في إطارها سلطته وهو ما يطلق عليه حالياً الدستور وعلى ذلك مفهوم السيادة عند بودان يعني أن الدولة لها سلطة عليا قوية وموحدة ولكنها ليست مستبدة أو غير مسئولية فهي محدودة بواسطة القانون وتستمد سلطاته منه، وهذا المفهوم للسيادة يتمشى مع النظرة التقليدية لمفهوم القانون التي تعتبر جميع القوانين الوضعية مستمدة من قانون أساسي أعلى يلزم الجميع ويتضمن حكمه الماضي، وإن القوانين الوضعية إذا خالفت هذا القانون الأعلى لن يكون لها أي قيمة ولن يعتد بها، وتمشياً مع هذا المفهوم فإن السيادة مبدأ رئيسي وضروري من أجل الحفاظ على النظام الأساسي للدولة.
ولكن نظرية بودان تغيرت نتيجة للأحداث التي توالت في نطاق العلاقات الدولة وظهور الدولة القومية في أوربا في العصر الحديث، حيث بدأ التفكير يتجه نحو الدولة القوية ذات السلطة المطلقة وأن القانون هو من صنع الحاكم وذلك كان نتيجة للتأثر بالقانون الروماني الذي كان يعد إرادة الأمير هي القانون ولقد وصل هذا التفكير إلى مده بعد كتبات هوبز في السيادة الذي يعتبر السلطة أعلى ما في الدولة وأقواها لذلك لا يمكن أن يوضع لها حدود كما لا تسمو عليها أي سلطة أخرى سواء في الداخل أو الخارج والقانون لا يقيد الحاكم بل هو أداة ليباشر فيها حكمه، وعلى ذلك فإن السيادة يجب أن تكون مطلقة وغير محدودة وهو ما يطلق عليه اليوم الديكتاتورية.
ولكن بظهور الحكومة الدستورية، ظهرت أفكار جديدة تبناها المفكر "لوك" ومن بعده "روسو" حيث أصبحت السيادة لمجموع الشعوب، وفي ذلك إضفاء للشرعية على الثورة الأمريكية والفرنسية حيث كانت لمواجهة الديكتاتورية.
وكان لتطور نظرية السيادة ودخولها المجال القانوني بداية نشوء القانون الدولي التقليدية، فلم تعد للدولة سيادة مطلقة في ميدان العلاقات الدولية، وبدأت تتوازن الأفكار التي كانت تنادي بأن الدولة لا تتقيد إلا بإرادتها وأن استعمال القوة واللجوء إلى الحرب هو أحد الوسائل المشروعة تأكيد سيادة الدولية.
واتجه الفقه إلى القول بأن هذه السيادة مقيدة بقواعد القانون الدولي العام وهي قواعد ملزمة تعلو على إرادة الدول.
الفصل الثاني : مراحل تطور القانون الدولي العام
إن الوقوف على تاريخ القانون الدولي العام ضرورة محلة وواجب علمي، لان ارتقاء القانون في الحاضر إنما يبنى على كيفية تكونه ونموه وتطوره في الماضي.
ولم يظهر تنظيم للعلاقات الدولية إلا بعد القرن السابع عشر أي بعد معاهدة وستفاليا ولكن يجب ألا يؤخذ هذا القول على إطلاقه، فلم يكن المجتمع الدولي خالياً من التنظيم قبل القرن السابع عشر، فقد ساهمت الجماعات المتحضرة على امتداد التاريخ الإنساني في تكوين قواعد القانوني الدولي، لذلك يمكننا القول بأن تطور القانون الدولي مستمر منذ ظهور التجمعات الإنسانية وصاحب نموها وتطورها إلى جماعات سياسية.
ويمكن تقسيم المراحل المختلفة لتطور القانون الدولي إلى أربع مراحل تاريخية وهي، العصور القديمة، والوسطى، والحديثة، وعصر التنظيم الدولي.
أولاً- العلاقات الدولية في العصور القديمة:
1- العصور القديمة:
لم يظهر القانون الدولي إلا مع ظهور الدول، ولقد شهدت العصور القديمة صوراً متعددة للعلاقات الدولية منها معاهدات الصلح والتحالف والصداقة وإنهاء الحروب ولعل أهمية معاهدة الصداقة التي أبرمت بين الفراعنة والحيثيين سنة 1287 قبل الميلاد، كان هناك أيضاً قانون "مانو" الهندي الذي نظم قواعد شن الحروب وإبرام المعاهدات والتمثيل الدبلوماسي.
ولكن رغم ذلك لم يعتبر إلا على حالات قليلة لتنظيم العلاقات الدولية ويدور معظمها حول الحروب كما أنها من جهة أخرى معظم العلاقات كان يحكمها القانون الإلهي بما لا يفيد وجود نظام قانوني دولي مستقر لحكم العلاقات بين الجماعات الإنسانية بطريقة منتظمة.
2- عصر الإغريق:
الأول: علاقة المدن الإغريقية فيما بينها: وكانت مبنية على الاستقرار وفكرة المصلحة المشتركة والتعاون وذلك نظراً لوحدة الجنس والدين واللغة، لذلك كان يتم اللجوء للتحكيم كل الخلافات فيما بينها، بالإضافة إلى وجود قواعد تنظيمية يتم احترامها في علاقاتها السلمية والعدائية، كقواعد التمثيل الدبلوماسي وقواعد شن الحرب.
الثاني: علاقة الإغريق بغيرهم من الشعوب الأخرى: كان يسودها اعتقادهم بتميزهم عن سائر البشر، وأنهم شعوب فوق كل الشعوب الأخرى منه حقه إخضاعها والسيطرة عليها، ومن هنا كانت علاقاتهم بهذه الشعوب علاقات عدائية وحروبهم معها تحكمية يشوبها الطابع العدائي ولا تخضع لأي ضوابط أو قواعد قانونية بل يحوطها كثير من القسوة وعدم مراعاة الاعتبارات الإنسانية.
3- عصر الرومان:
لا يختلف الرومان كثيراً عن الإغريق، فقد كانوا يعتقدون بتفوقهم على الشعوب الأخرى وبحقهم في السيطرة على ما عداهم من الشعوب، لذلك كانت صلتهم بغيرهم مبنية على الحرب مما أدى إلى سيطرة الإمبراطورية الرومانية على معظم أرجاء العالم آنذاك، وبالتالي كانت العلاقات بين هذه الدولة وروما علاقات بين أجزاء الإمبراطورية الواحدة تخضع جميعها للقانون الروماني الذي كان يحكم هذه الإمبراطورية.
ولقد امتاز الرومان بعبقريتهم القانونية: حيث ظهرت في روما مجموعة من القواعد القانوني لحكم العلاقات بين الرومان ورعايا الشعوب التابعة لروما أو تلك ترتبط معها بمعاهدات تحالف أو صداقة سميت بقانون الشعوب، فقد كانت قواعد هذا القانون تنظم العلاقات بين أفراد الشعب الروماني وأفراد الشعوب الأخرى وتنظم الحماية أفراد هذه الشعوب في حالة انتقالهم أو وجودهم في روما، أما الشعوب الأخرى التي لا تربطها بروما معاهدة صداقة أو معاهدة تحالف فإن مواطني هذه الدول وممتلكاتهم لا يتمتعون بأي حماية بل يجوز قتلهم أو استرقاقهم، ويمكن القول بأن القانون التشريع قد شهد ازدهاراً كبيراً في عهد الرومان.
ولكن مسائل القانون الدولي العام لم تكن واضحة في المجتمعات القديمة، وذلك لانعدام فكرة المساواة بين الشعوب ولعدم وجود الدول المستقلة نظراً لتسلط شعب معين على باقي الشعوب.
ثانياً- العلاقات الدولية في العصور الوسطى:
ظهر في هذا العصر الممالك الإقطاعية، حيث كان كل أمير إقطاعي يسعى للمحافظة على إقطاعه، أو توسيعه مما أدى إلى قيام حروب متعاقبة بين الأمراء الإقطاعيين من جهة أخرى شهد هذا العصر صراعاً بين الدولة في مواجهة أمراء الإقطاع تحقيقاً لوحدتها الداخلية وتأكيداً لسيادتها انتهى بتغلب الدولة وزوال النظام الإقطاعي.
من جهة أخرى ظهر في هذا العصر تسلط الكنيسة وذلك نتيجة لانتشار الدين المسيحي بين الدول الأوربية من جهة وظهور الإسلام والخوف من انتشار نفوذه مما يؤدي إلى انتزاع السيادة من المسيحية.
ولكن تسلط الكنيسة والباب يتنافى مع وجود الدولة المستقلة التي يمكنها تنظيم علاقاتها فيما بينها حسبما تقتضي ظروفها. وذلك يشكل عقبة في وجه تطور القانون الدولي العام، لأن إسناد العلاقات الدولية إلى الروابط الدينية دون غيرها كان من شأنه أن تقتصر هذه العلاقات على الدول المسيحية وحدها دون سواها من الدولة غير المسيحية، وقد ساعد على تخلص الدولة من سلطان البابا ظهور الحرية الفكرية العلمية المعروفة بعصر النهضة، وما صاحب ذلك من حركة الإصلاح الديني في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وقد كان أهم أغراضها: بيان ما يجب على الدول إتباعه بشأن العلاقات المتبادلة بينهم مستوحية ذلك من مبادئ الدين المسيحي، ومن زعماء حركة الإصلاح "فيتوريا" وجنتيليس".
ولقد أدى اكتشاف القارة الأمريكية في هذا العصر إلى إثارة مسائل دولية جديدة أهمها الاستعمار وحرية البحار مما أدى إلى تزايد الاهتمام بتوجيه القانون الدولي بشأنها.
ثالثاً- ظهور القانون الدولي في العصور الحديثة:
أدى التطور الذي حدث في القوانين الخامس عشر والسادس عشر إلى انقسام أوربا إلى فريقين، الأول ينادي بالولاء للكنيسة والثاني ينادي بالاستقلال عن الكنيسة مما أدى إلى نشوب حرب الثلاثين عام والتي انتهت بإبرام معاهدات وستفاليا سنة 1648، ونتج عن ذلك ظهور الدول التي تتمتع بالسيادة ولا تخضع لسلطة أعلى منها.
ولكن يرجع الفضل في إرساء أسس القانون الدولي التقليدي إلى معاهدة وستفاليا والتي تتخلص أهم مبادئها بما يلي:
1- هيأت اجتماع الدول لأول مرة للتشاور حول حل المشاكل فيما بينها على أساس المصلحة المشتركة.
2- أكدت مبدأ المساواة بين الدول المسيحية جميعاً بغض النظر عن عقائدهم الدينية وزوال السلطة البابوية، وثبتت بذلك فكرة سيادة الدولة وعدم وجود رئيس أعلى يسيطر عليها وهي الفكرة التي على أساسها بني القانون الدولي التقليدي.
3- تطبيق مبد التوازن الدولي للمحافظة على السلم والأمن الدوليين، ومؤدى هذا المبدأ أنه إذا ما خولت دولة أن تنمو وتتوسع على حساب غيرها من الدول فإن هذه الدول تتكل لتحول دون هذا التوسع محافظة على التوازن الدولي الذي هو أساس المحافظة على حالة السلم العام السائدة بين هذه الدول.
4- ظهور فكرة المؤتمر الأوربي الذي يتألف من مختلف الدول الأوربية والذي ينعقد لبحث مشاكلها وتنظيم شئونها.
5- نشوء نظام التمثيل الدبلوماسي الدائم محل نظام السفارات المؤقتة مما أدى إلى قيام علاقات دائمة ومنظمة بين الدول الأوربية.
6- الاتجاه نحو تدوين القواعد القانونية الدولية التي اتفقت الدول عليها في تنظيم علاقاتها المتبادلة، فقد قامت الدول بتسجيل هذه القواعد في معاهدات الصلح التالية مما أدى إلى تدعيم القانون الدولي وثبوتها بين الدول.
ويبقى القانون الدولي التقليدي مدين بنشأته وتطوره العلمي لدراسة الفقهاء القدامى وأبرزهم جروسيوس أبو القانون الدولي العام حيث كان لكتاباته أثر هام في تطور القانون الدولي ومن أهم مؤلفاته "كتاب البحر الحر".
أهم المؤتمرات التي عقدت بعد معاهدة وستفاليا:
1- مؤتمر فيينا:
أدار نابليون أن يطبق أفكار الثورة الفرنسية القائمة على المساواة والاعتراف بحقوق الإنسان فشن حروبه على الأنظمة الديكتاتورية والملكية مما أدى إلى زوال دول عديدة وظهور دول جديدة.
ولكن تبدل الوضع فيما بعد حيث أنهز نابليون مما أدى إلى انعقاد مؤتمر فيينا عام 1815 لتنظيم شئون القارة الأوربية وإعادة التوازن الدولي ونتج عن هذا المؤتمر عدة نتائج لعل أهمها إقرار بعض القواعد الدولية الجديدة والخاصة بحرية الملاحة في الأنهار الدولية وقواعد ترتيب المبعوثين الدبلوماسيين وتحريم الاتجار بالرقيق.
2- التحالف المقدس:
نشأ هذا التحالف بين الدول الكبرى المشتركة في مؤتمر فيينا، حيث كان الغرض من التحالف تطبيق مبادئ الدين المسيحي في إدارة شئون الدول الداخلية والخارجية، ولكن الهدف الحقيقي كان الحفاظ على عروش هذه الدولة الكبرى وقمع كل ثورة ضدها، وأكد ذلك معاهدة "إكس لاشيل" سنة 1818 بين انجلترا وبروسيا والنمسا ثم فرنسا، حيث نصت هذه الدول نفسها قيمة على شئون أوربا واتفقت على التدخل المسلح لقمع أية حركة ثورية تهدد النظم الملكية في أوربا.
3- تصريح مونرو:
أصدر هذا التصريح الرئيس الأمريكي عام 1823 حيث تضمن أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تسمح لأية دولة أوربية بالتدخل في شئون القارة الأمريكية أو احتلال أي جزء منها وذلك رداً على تدخل الدول الأوربية لمساعدة أسبانيا لاسترداد مستعمراتها في القارة الأمريكية.
ولقد كان لهذا التصريح شأنه في إرساء مبدأ التدخل في شئون الدول الداخلية وكان له أثره أيضاً في توجيه العلاقات الدولية بين القارتين الأمريكية والأوربية.
4- مؤتمرات السلام بلاهاي عام 1899 و 1907:
تضمن هذه المؤتمرات قواعد فض المنازعات بالطرق السلمية، وإقرار قواعد خاصة بقانون الحرب البرية والبحرية وقواعد الحياد، وإن كان طابع المؤتمر الأول أوربي فإن المؤتمر الثاني 1907 غلب عليه الطابع العالمي لوجود غالبية من دول القارة الأمريكية.
ولا شك أن لهذه المؤتمرات دور بارز في تطوير العلاقات الدولية وتطوير القانون الدولي بما يتفق مع مصالح الجماعة الدولية، فقد اتجهت مؤتمرات لاهاي إلى استحداث نظم ثابتة، وتم التوصل إلى أنشاء هيئات يمكن للدول اللجوء إليها عند الحاجة لتسوية المنازعات التي قد تقع بين دولتين أو أكثر كما امتدت جهود المؤتمر إلى إنشاء أول هيئة قضائية دولية هي محكمة التحكيم الدولي الدائمة في لاهاي.
رابعاً- القانون الدولي في عصر التنظيم الدولي:
لم يحقق مؤتمر لاهاي السلام العالمي لتسابق الدول الكبرى لاستعمار الدول الغنية بالثروات والمواد الأولية وذلك على إثر التقدم الصناعي مما أدى إلى قيام الحرب العالمية الأولى عام 1914 وبعد انتهاء الحرب اجتمعت الدول في مؤتمر باريس عام 1919 الذي انتهى بقيام خمس معاهدات صلح فرضت على الدول المنهزمة في الحرب وهي ألمانيا والنمسا وبلغاريا والمجر وتركيا.
1- عصبة الأمم:
أهم ما نتج عن مؤتمر باريس قيام عصبة الأمم كأول منظمة دولية عالمية أعطيت حق النظر في المنازعات الدولية التي تهدد السلم، كما أنشئت هيئة قضائية للفصل في المنازعات ذات الطابع القانوني وهي المحكوم الدائمة للعدل الدولي.
ولقد بذلت عصبة الأمم جهوداً مضنية لتدعين السلم الدولي ومن ذلك عقد اتفاقيات دولية أهمها ميثاق جنيف عام 1928، ولكن هذه الجهود ذهبت إدراج الريح بسبب تمسك الدول بسيادتها وعدم تقبلها لفكرة إشراف المنظمة الدولية على شئونها وتدخلها في حل المنازعات التي تهدد السلم الدولي.
ووقفت العصبة موقف المتفرج من الحروب التي دارت بين الدول الاستعمارية وأيضاً الحروب المحلية وقد كان ذلك من العوامل التي مهدت للحرب العالمية الثانية التي نشبت سنة 1939 بين مجموعة الدول الفاشية والحلفاء الديمقراطيين.
2- الأمم المتحدة:
بنهاية الحرب العالمية الثانية اجتمعت الدول من جديد في إبريل 1945 في مدينة فرانسيسكو نتج عنه قيام منظمة الأمم المتحدة التي زودت بكافة السلطات والوسائل التي تضمن لها أداء مهمتها على أتم وجه وبالتالي كانت أقوى من عصبة الأمم. وقامت المنظمة بجهود مضنية في سبيل تحقيق أهدافها في السلام والأمن الدوليين ولكن نظراً لبعض الاعتبارات السياسية لم يستطع واضعو الميثاق الحد من مبدأ سيادة الدول الأعضاء مما نجم عنه منح الدول الخمس الكبرى حق الفيتو ولهذا فقد تعرضت الأمم المتحدة منذ نشأتها لظروف صعبة فقد كان عليها في ظل ميثاقها وما يحوطه من تناقض أن تعمل على الحد من المنافسات القومية الحادة وصراع القوى الكبرى، وبالرغم من تأكيد الميثاق على تحريم استعمال القوة في العلاقات الدولية فإن الدول الكبرى لا تزال تستخدم القوة بل تتسابق لزيادة أسلحتها بما فيها الأسلحة النووية، ويضاف إلى ذلك الصراع بين الكتلتين الشرقية والغربية ورغم مرور زمن طويل على إنشاء المنظمة فإنها لم تحقق المرجو منها ولكن رغم ذلك وجودها ضرورياً وذلك لتمسك الدول بالتنظيم الدولي وازدياد الإقبال عليها من دول العالم الثالث، وقد مارست المنظمة ومازالت نشاطاً متزايداً في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية.
الباب الثالث : طبيعة قواعد القانون الدولي العام
الفصل الأول : تحديد عناصر القانون الدولي العام
إن عناصر القانون الدولي أو خصائصه ثلاثة وهي صفة القانون، والصفة الدولية والصفة العامة.
أولاً- صفة القانون:
يعتبر القانون الدولي العام قانوناً وهذا ما أكدته الوثائق الرسمية الدولية والداخلية وينكر بعض الفقه هذه الصفة لعدم وجود السلطات الثلاثة ولافتقار القانون الدولي لعنصر الجزاء.
هذا الكلام صحيح من الناحية الشكلية ولكنه غير دقيق من الناحية الموضوعية حيث تعرف القاعدة القانونية بأنها "القاعدة التي تلزم مراعاتها لأنها تهدف إلى كفالة النظام الاجتماعي" ومن خلال هذا التعريف تتميز القاعدة القانونية بما يلي:
1- أنها تهدف إلى كفالة النظام الاجتماعي وطنياً كان أم دولياً.
2- أنها قاعدة محددة موجهة إلى أشخاص القانون بصفاتهم وليس بذواتهم، وهو ما ينطبق على الأفراد في ظل النظام القانوني الوطني، والدول في ظل النظام القانوني الدولي.
3- أنها قاعدة ملزمة لأنها تقررت لكفالة النظام الاجتماعي ولا يمكن أن تترك لهوى أفراده يستجيبون لها أو لا يستجيبون.
أما الجزاء فهو ليس عنصراً من عناصر القاعدة القانونية لأنه ليس شرط تكوين بل شرط فعالية لأنه يأتي في مرحلة تالية لتكوين القاعدة القانونية ومن أجل ضمان تطبيقها. وباستبعاد الجزاء كركن في القاعدة القانونية فإن عناصرها تقتصر على الثلاثة السالفة الذكر وهذا يعني اتصاف القانون الدولي العام بوصف القانون.
ثانياً- الصفة الدولية:
استمد القانون الدولي هذه الصفة من خلال تنظيمه للعلاقات بين الدول، ولكنها لا تعكس الواقع لأن المجتمع الدولي أصبح يضم المنظمات الدولية والأفراد أحياناً لذلك هذه الصفة قاصرة ولا تعبر عن كافة العلاقات التي اتسع ليشملها هذا القانون.
ثالثاً- الصفة العامة:
لا تعني العمومية التي يتصف بها هذا القانون نطاق تطبيقه لأن العمومية ركن من أركان القاعدة القانونية وليس من أوصافها، ولكنها تعني أن قواعده تحكم العلاقات بين الدول بوصفها سلطة عامة مستقلة، وهذا ما يميز القانون الدولي العام عن القانون الدولي الخاص الذي يحكم علاقات الأفراد المنتمين إلى دول مختلفة باعتبار أن علاقاتهم فردية أو خاصة لا تدخل الدول طرفاً فيها.
الفصل الثاني : التمييز بين قواعد القانون الدولي وغيرها من القواعد الدولية
المقصود بقواعد القانون الدولي تلك الأحكام المستقرة في العلاقات الدولية، والتي يترتب على مخالفتها قيام مسئولية قانونية دولية، ومن هذه القاعدة تختلف قواعد القانون الدولي عن القواعد التي سندرسها حيث لا تثير مخالفة الأخيرة المسئولية القانونية الدولية.
أولاً- قواعد المجاملات الدولية:
وهي القواعد غير الملزمة التي درجت الدول على إتباعها في علاقاتها الدولية انطلاقاً من اعتبارات اللياقة والمجاملة دون أي التزام قانوني أو أخلاقي ومخالفتها لا يرتب أي جزاء، ولكن قد تتحول قواعد المجاملات إلى قواعد قانونية ملزمة عبر تنظيمها بمعاهدة أو من خلال تواتر العمل الدولي عيها مع الشعور بنها ذات صفة ملزمة مثال ذلك ما حدث بالنسبة لقواعد امتيازات وحصانات المبعوثين الدبلوماسيين، وبالعكس فقد تتحول القاعدة القانونية إلى قاعدة من قواعد المجاملات إذا فقدت وصف الالتزام القانوني واتجهت الدول إلى عدم التمسك بصفة الملزمة وهو ما حدث بالنسبة لمراسم استقبال السفن الحربية في الموانئ الأجنبية التي كانت قديماً من القواعد القانونية الملزمة.
ثانياً- قواعد الأخلاق الدولية:
وهي مجموعة المبادئ والمثل العليا التي تتبعها الدول استناداً إلى معايير الشهامة والمروءة والضمير، ويتعين على الدول مراعاتها حفاظاً على مصالحها العامة والمشتركة رغم عدم وجود أي التزام قانوني بها، وتقع في مركز وسط بين القاعدة القانونية الدولية وقواعد المجاملات الدولية، فهي مثل قواعد المجاملات التي تتمتع بصفة الإلزام ولا ترتب مخالفتها أي جزاء إلا المعاملة بالمثل وهو جزاء أخلاقي، كما أنها تقترب من قواعد القانون الدولي من أن عدم مراعاتها يعرض الدولة لاستهجان الرأي العام العالمي كما يعرض مصالحها للخطر. ومن أمثلة قواعد الأخلاق الدولية: استعمال الرأفة في الحرب وتقديم المساعدات للدول التي تتعرض لكوارث، وقد تتحول هذه القواعد إلى قواعد ملزمة إذا أحست الدول بضرورتها وتم الاتفاق عليها بموجب اتفاقية دولية أو بتحولها القاعدة عرفية مثل تحول قواعد الأخلاق المتعلقة بمعاملة أسرى الحرب إلى قواعد قانونية بعد النص عليه في اتفاقيات جنيف عام 1949.
ثالثاً- قواعد القانون الدولي الطبيعي:
هي القواعد التي تعتبر مثالاً لما يجب أن يكون عليه المجتمع الدولي، وهي لا تنشأ بفعل الإرادة وإنما يفرضها العقل والمنطق لتحقيق العدالة المطلقة باعتبارها الوضع المنطقي الذي يتعين أن تكون عليه العلاقات بين أفراد المجتمع. ووجه الخلاف بين القانون "الطبيعي" والقانون الدولي "الوضعي" أن الأول يعتبر تعبيراً عن المثالية الدولية التي يجب أن تكون عليها علاقات المجتمع الدولي، أما الثاني فهو تعبير عن واقع الحياة الدولية بصرف النظر عن مدى تطابق هذه الواقعية مع اعتبارات العدالة، وقواعد القانون الدولي الوضعي لها الأولوية لأنها تتمتع بصفة الإلزام ويترتب على مخالفتها جزاء، في حين لا يجوز تطبيق قواعد القانون الدولي الطبيعي إلا عند الاتفاق بين الأطراف على ذلك.
الباب الرابع : أساس القوة الإلزامية للقانون الدولي
ذكرنا سابقاً أن جانب من الفقه اعترض على تمتع قواعد القانون الدولي بالصفة القانونية لافتقارها لعصر الجزاء، وهذا الاعتراض يعبر عنه بكلمات "لا شريعة مدونة ولا محكمة ولا قوة عمومية".
- فلا تشريع لأن العادات والاتفاقات لا تكفي لإيجاد القانون بالمعنى الحقيقي.
- ولا محكمة لأنه لي يكون للقاعدة القانونية قيمة مادية يجب أن يتم تنفيذها بحكم قضائي حيث وسيلة الإكراه الوحيدة هي الحرب.
وإذ كانت هذه الانتقادات صحيحة من الناحية النظرية فإننا قلنا سابقاً أنها ليست دقيقة من الناحية الموضوعية والواقعية، فإذا كنا نعترف بالوصف القانوني للقاعدة الدولية، أي توافر عنصر الإلزام فيها فما هو أساس هذا الإلزام؟ لقد كان هناك مذهبين لتفسير ذلك سندرسهما تباعاً.
الفصل الأول : المذهب الإرادي
هو مذهب ألماني النشأة يطلق من أن الدول تتمتع بالسيادة ولا تخضع لسلطة أعلى منها وبالتالي فإن القانون الدولي ما هو إلا مجموعة القواعد التي تنسق بين إرادات هذه الدول، فلذلك فإن الرضا المستمد من إرادة الدول الصريحة هو أساس التزام الدول بأحكام القانون الدولي العام.
وقد انقسم أنصار المذهب الإرادي في تطبيق فكر الإرادة إلى اتجاهين:
أحدهما يستند إلى إرادة كل دولة على حدة والآخر يستند إلى إرادات الدول مجتمعة.
أولاً- نظرية الإرادة المنفردة:
ويطلق على هذه النظرية اسم "التقييد الذاتي للإرادة" أو "نظرية التحديد الذاتي" لأن الدول لها سيادة ولا يوجد سلطة أعلى منها وبالتالي فإن الدولة هي التي تلتزم بالقانون الدولي بإرادتها المنفردة دون أن يجبرها أحد على ذلك، وعندما تتعارض إرادة الدولة مع القانون الدولي العام فيجب أن يزول الأخير لأن الدولة في مركز أسمى من كل المبادئ القانونية.
نقد:
1- تنافي هذه النظرية المنطق لأن مهمة القانون وضع الحدود على الإرادات فكيف يستمد القانون صفته الملزمة من إرادة المخاطبين بأحكامه.
2- بما أن الدولة تلتزم بالقانون بإرادتها فهي تستطيع التحلل من ذلك بإرادتها أيضاً وفي ذلك انهيار للصفة الإلزامية للقانون الدولي العام.
ثانياً- نظرية الإرادة المشتركة:
نشأ القانون الدولي العام وفقاً لهذه النظرية نتيجة توافق إرادة الدول على ذلك وبالتالي يستمد صفته الإلزامية من إرادة جماعية مشتركة تفوق في السلطة الإرادة الخاصة أو المنفردة للدولة.
نقد:
1- إرادة هذه النظرية التحايل بخلق سلطة أعلى من إرادة الدولة حيث يمكن أن تجتمع إرادة الدول مرة أخرى للتحلل من إلزام القانون الدولي.
2- هذه النظرية لا تفسر لنا سبب التزام الدول التي تدخل حديثاً في الجماعة الدولية بقواعد القانون الدولي مع أنها لم تشترك بإرادتها في خلق القانون الدولي.
الفصل الثاني : المذهب الموضوعي
تبحث هذه المدرس عن أساس القانوني خارج دائرة الإرادة الإنسانية، فأساس القانون وفقاً لهذا المذهب تعينه عوامل خارجة عن الإرادة ورغم اتفاق أنصار هذه المدرسة على ذلك إلا أنهم اختلفوا حول تحديد العوامل الخارجية المنتجة للقواعد القانونية إلى مذهبين.
أولاً- مذهب تدرج القواعد القانونية:
ويلقب بالمدرسة النمساوية، وبحسب هذا المذهب لكل نظام قانوني قاعدة أساسية يستند إليها ويستمد منها قوته الإلزامية، فالقواعد القانونية لا يمكن تفسيرها إلا بإسناده إلى قواعد قانونية أخرى تعلوها وهذه بدورها تستند إلى قواعد أعلى منها وبالتالي يكون القانون على شكل هرم يقبع في قمته قاعدة أساسية تستمد منها كافة القواعد قوتها الإلزامية وهي قاعدة قدسية الاتفاق والوفاء بالعهد وهي أساس الالتزام بأحكام وقواعد القانون الدولي.
نقد:
1- يقوم على الخيال والافتراض لأن القاعدة الأساسية هي مفترضة لم تفصح المدرسة النمساوية عن مصدر ولا عن قوتها الإلزامية أو سبب وجودها.
2- إذا سلمنا بوجود القاعدة الأساسية فلا بد أن تستند بدورها إلى قاعدة أعلى منها وهو ما لم يقدمه أنصار هذا المذهب.
ثانياً- مذهب الحدث الاجتماعي:
ويلقب بالمدرسة الفرنسية، وتتلخص أفكارها أن أساس كل قانون بصفة عامة والقانون الدولي خاصة هو في الحدث الاجتماعي حيث يفرض قيود وأحكام تكتسب وصف الإلزام نتيجة حاجة المجتمع الدولي إليها ونتيجة الشعور العام بحتميتها من أجل المحافظة على حياة الجماعة وعلى بقائها، فالقانون تبعاً لذلك، أساس الحياة الاجتماعي فهو ليس صادراً عن نظام وليس تعبيراً عن إرادة بل هو نتاج اجتماعي وواقعة محددة ذاع الشعور بوجودها، ومن هنا لا يعتبر أنصار هذا المذهب أن المشرع هو الذي يخلق القاعدة القانونية الداخلية أو الدولية، بل يقتصر دوره على كشف القواعد القانونية التي تنشأ نتيجة التفاعلات الاجتماعية التي تطلبها حاجات المجتمع وتطوراته والتي لم يتم تكوينها تلقائياً دون تدخل إرادات الأفراد أو الدول.
نقـد:
1- أساسه فلسفي، حيث لا يمكن أن يكون الحدث الاجتماعي أساس القانون لأن الجماعة الإنسانية سبقت القانون في الوجود.
2- القواعد الاجتماعية تختلف عن القانونية من حيث أسبقية الأولى في الوجود عن الثانية، ومن ثم لا يمكن أن تعد أساساً للواجبات التي تتحدد عن طريق القواعد القانونية الوضعية.
3- لا يمكن أن يستمد إلزام القاعدة القانونية أساسه من الإحساس بلزومها للمجتمع وإنما يرجع إلى حتمية توقيع الجزاء على من يخالف هذه القاعدة.
ومن خلال ما تقدم نرى الخلاف الكبير بين الفقهاء حول أساس القوة الإلزامية للقانون الدولي العام، لكن الرأي الغالب كان يرجح المذهب الإرادي والذي يقوم على رضاء الدول عامة صراحة أو ضمناً بالخضوع لأحكام القانون الدولي العام وهذا ما أبدته المحكمة الدائمة للعدل الدولي. ولكن هذا الرأي يضعف من الأساس الذي يقوم عليه القانون حالياً.
كما أن وجود بعض القواعد التي لم توافق عليها الدول أو تسهم في إنشائها يجعل من الصعب الحديث عن إرادة مفترضة للدول مما يضعف الأساس الذي يستند إليه القانون الدولي ويؤدي إلى التشكيك في وجوده ويعرضه للهدم.
وأياً كان الرأي فإن هذا الموضوع يخرج من إطار القانون الوضعي ليدخل في دائرة البحث ضرورات الحياة وحاجاته والحاجة إلى وجود قواعد تنظم علاقات الشعوب بين بعضها.
الباب الخامس : مصادر القانون الدولي
يطلق اصطلاح مصادر القانون بصفة عامة على مجموعة الوسائل أو الطرق التي تتحول بها قواعد السلوك إلى قواعد قانونية ملزمة، سواء كانت تلك القواعد عامة أم خاصة وهناك للقانون الدولي مصادر أصلية وأخرى احتياطية.
المصادر الأساسية هي:
1- المعاهدات 2- العرف 3- مبادئ القانون العامة التي أقرتها الأمم المتحدة.
أما المصادر الاحتياطية فهي:
1- القضاء الدولي 2- الفقه
* وتعد المصادر الأصلية أقوى من المصادر الاحتياطية لأنه يرجع إليها أولاً وحسب الترتيب السابق الذكر فإن لم نجد القاعدة القانونية الواجبة التطبيق يتم الرجوع إلى المصادر الاحتياطية.
الفصل الأول :المصادر الأصلية
أولاً- المعاهدات:
هي المصدر الأول المباشر لإنشاء القواعد القانونية الدولية، والمعاهدات هي اتفاقات رسمية تبرمها الدول في شأن من الشئون الدولية، وينتج عنها بعض الآثار القانونية يحددها القانون الدولي العام.
* وتنقسم المعاهدات من حيث موضوعها إلى:
معاهدات خاصة، ومعاهدات عامة، ومن حيث أطرافها إلى: معاهدات ثنائية، وجماعية أو متعددة الأطراف، ومن حيث تكييف القانون إلى: معاهدات عقدية ومعاهدات شارعة، ومن حيث الانضمام إليها إلى معاهدات مغلقة قاصرة على الموقعين عليها أو معاهدات أو معاهدات مفتوحة يسمح فيها بالانضمام لغير الموقعين عليها.
* المعاهدات الخاصة:
هي معاهدات تنظم أموراً خاصة تهم الدول المتعاهدة وأثرها لا يمتد إلى الدول التي لم تشارك في إبرامها، وهذا النوع من المعاهدات يعد مصدراً لقواعد القانون الدولي العام، وتعتبر مصدراً لالتزامات قانونية تسري فقط في مواجهة أطراف التعاقد ولذلك يطلق عليها (المعاهدات العقدية) ومن أمثلتها المعاهدات التجارية ومعاهدات الصلح.
* وإن كانت المعاهدات الخاصة: لا تعد مصدراً مباشراً لقواعد القانون الدولي العام فهي قد تكون مصدراً مباشراً لقاعدة ما إذا ثبت التواتر على الالتزام بقاعدة قانونية اعتادت الدول عليها في معاهداتها الخاصة بحيث تتحول إلى عرفاً دولياً وهذا ما يندرج تحت المصدر الثاني من المصدر الأصلية.
* المعاهدات العامة:
هي اتفاقات متعددة الأطراف تبرم بين عدد من الدول لتنظم أمور تهم الدول جميعاً وهي لهذا السبب قريبة الشبه بالتشريعات ولذلك يطلق عليها المعاهدات الشارعة، ولكن لم ذلك يوجد فارق بين المعاهدات الشارعة والتشريع في أن الأول ملزمة فقط لأطرافها حيث لا تصدر عن سلطة عليا تجعلها تسري في مواجهة غيرهم من الدول، بينما التشريع يصدر عن سلطة الدولة العليا فيلزم جميع رعايا الدولة التي أصدرته.
* المعاهدات الثنائية:
هي التي تبرم بين دولتين لتنظيم مسألة تتعلق بهما، وهذا النوع من المعاهدات يدخل في نطاق المعاهدات الخاصة، وفي الغالب الأعم ما تكون هذه المعاهدات مغلقة قاصرة على طرفيها ولا يسمح فيها بالانضمام لغير الموقعين عليها نظراً لأنها تنظم مسألة خاصة لا تهم أحداً سواهما.
أما المعاهدات الجماعية فهي التي تبرم بين عدد غير محدود من الدول لتنظيم أموراً تهم الدول جميعاً، وهذه تدخل في نطاق المعاهدات العامة أو الشارعة.
وهذا النوع من المعاهدات غالباً ما تكون مفتوحة يسمح فيها بالانضمام لغير الموقعين عليها، وذلك لتيسير امتداد دائرة تطبيق أحكامها في الحالات التي تدعو إلى ذلك.
كما وأنه غالباً ما ينص فيها على حق الدول الأطراف في الانسحاب من المعاهدات بإرادتها المنفردة وفق شروط وإجراءات معينة.
وهناك عدة شروط لصحة انعقاد المعاهدة من الناحيتين الشكلية والموضوعية كما وأن دخول المعاهدة في دور التنفيذ وانقضاءها يخضعان خضوعاً تاماً لإرادة أطرافها.
ولا تختص المعاهدات بمعالجة موضوع معين، فقد تتناول المعاهدات بالتنظيم مسائل سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو تجارية، وقد تناول موضوعاً قانونياً فتأخذ وصف المعاهدة الشارعة.
ثانياً- العرف:
وهو المصدر الثاني المباشر لقواعد القانون الدولي العام وهو الهم لأنه غالباً ما تكون المعاهدات تعبيراً عما استقر عليه العرف قبل إبرام المعاهدة.
ويمكن تعريف العرف الدولي بأنه مجموعة أحكام قانونية عامة غير مدونة تنشأ نتيجة اتباع الدول لها في علاقة معينة، فيثبت الاعتقاد لدى غالبية الدول المتحضرة بقوتها القانونية وأنها أصبحت مقبولة من المجتمع الدولي.
* ويتكون العرف الدولي بنفس الطريقة: التي يتكون بها العرف الداخلي، وذلك بتكرار التصرفات المماثلة من دول مختلفة في أمر من الأمور ويقصد بالتكرار هنا ذلك التكرار الغير مقترن بعدول حيث يؤكد تثبيت القاعدة العرفية واستقرار أحكامها، ويرجع ذلك لقلة عدد أشخاص القانون الدولي بالمقارنة بعدد أشخاص القانون الداخلي.
ومن ثم فإن العلاقات التي تقوم بينهم تتميز عن علاقات الأفراد بأن فرص التكرار تكون بالضرورة أقل منها في القانون الداخلي.
ويتضح مما سبق أن الأحكام العرفية تقوم على السوابق الدولية، التي يمكن أن تكون تصرفات دولية وقد تكون غير دولية كتكرار النص على قاعدة معينة في التشريعات الداخلية للدول المختلفة يستفاد منها انصراف نية الدولة إلى تطبيق قاعدة دولية وقد تنشأ السوابق الدولية أيضاً نتيجة لقرارات وتصرفات تصدر عن المنظمات الدولية، عالمية أو إقليمية.
* ويكفي أن تصبح القاعدة العرفية مستقرة بين الغالبية العظمى من الدول لكي تكون ملزمة لكافة الدول القائمة فعلاً والدول الجديدة التي تنشأ مستقبلاً، فوجود الدولة كعضو في المجتمع الدولي أو قبولها كعضو جديد به يعني موافقتها على القواعد التي تواتر عليها استعمال غالبية الأعضاء المكونين لهذا المجتمع الدولي.
* أركان العرف:
1- الركن المادي:
هو تكرار تصرف إيجابي أو سلبي معين لفترة زمنية طويلة وذلك على سبيل التبادل بين الدول ويجب أن يتخذ تكرار التصرف صفة العمومية بحيث تمارسه الدول في كافة الحالات المماثلة الحالية والمستقبلية، ولا يشترط إجماع كل الدول مقدماً لثبوت القاعدة العرفية بل يكفي أغلبية الدول.
ويقسم الفقه العرف إلى قسمين: عرف عام وهو مجموعة الأحكام التي تتبعها أغلبية الدول في تصرفاتها في مناسبات معينة وهو ما يطلق عليه العرف الدولي، وعرف خاص حيث يتضمن مجموعة الحكام التي تنشأ نتيجة تكرار التصرف بين دولتين أو مجموعة من الدول تقع في منطقة جغرافية واحدة أو تصل بينهما روابط مشتركة أو التي تضمها هيئات إقليمية وهو ما يطلق عليه (العرف الإقليمي).
2- الركن المعنوي:
لا يكفي الركن المادي أي تكرار التصرف لقيام العرف بل لابد من وجود ركن معنوي يقوم على الاعتقاد بأن السير وفقاً لما جرت العادة عليه ملزم قانوناً بل هناك أولوية للعنصر المعنوي على المادي، وبالتالي لا يعتد بتكرار الدول التصرفات معينة دون توافر هذا الاعتقاد.
* والعنصر المعنوي هو الذي يميز الحكم المستمد من العرف عن غيره من الأحكام الأخرى غير الملزمة كالعادة الدولية والمجاملات الدولية أو الأخلاق الدولية، لذلك هناك بعض الدول ولكي لا تصبح تصرفاته المتكررة عرفاً تعلن عن عدم التزامها القانوني بهذه التصرفات.
وإن التحقق من الركن المعنوي أصعب من التحقق من الركن المادي لأن ا