سهو الجهات لمسعود حديبي
ذاكرة الحضور ، حضور الذاكرة
عبدالحميد شكيل / عنابة
عن الشاعر مسعود حديبي ، شاعر من جيل المأساة والتجربة ، مواطن شعري بامتياز ، قذفت به قرى القل الكافرة
إلى جحيم المدن التي لا ترحم ، ولا تقول .. ظل مخلصا لذاته ، لشعره ، لقناعاته الجميلة ، قناعات الشعر ،
وتحولاته ، وموالاته ، وأيقوناته التي خانها الكثير من مجايلينا الذين أسلموا أمرهم لنعيم الحياة ، ودفء مباذخها..
أعني أن الشاعر لم تجرفه المغريات ، ولم تنل منه السلوكات الخائنة ، التي كشفت اللثام عن الكثير من الأسماء التي
كنا نرى على أنها ستكون الدليل الجميل نحو سماوات الشعر ، وآفاقه الرحبة ، لكن بمجرد أن أومات إليهم
المرايا ، وغمزت بطرفها الخفي ،حتى شمروا سواعدهم ، وأرجلهم ، وأقلامهم ، وانطلقوا في سباق محموم ، نحو
مباهج السلطة ونعيمها متخلين عن إيمانهم ، وقناعاتهم ، ونضالاتهم الشعرية ،والأيديولوجية ، في سبيل أمجاد
زائفة، ومواقف راجفة ، وأشياء لا تشرف المبدع ، والكاتب الحقيقي ، لكن مسعود حديبي من شعراء
الجزائريين الذي ظلوا يحترفون الصمت ، والألم ، والغواية الشعرية التي هي السبيل الوحيد ، والأجمل لدخول
ممالك الشعرية اللذيذة ، دون التخلي عن القناعات الذاتية والاشتراطات الجمالية التي هي الضامن الأصيل لتفوق
الشاعر ، ونجاحه الإبداعي والانساني ، وسط هذه الخيبات التي خرّبت الحركة الشعرية الجزائرية ، وضربتها في
الصميم ، حيث أن الكثير ، بل جّل الأسماء التي رافقت مسيرتنا الشعرية ـ جيل السبعينات ـ قد تخلّت عن
الشعر وجمالياته ، وعذاباته ، وسموّه ، بل وذهب بها الشطط ، واللغو ، والتنابذ فاعتبرت أن كتابة الشعر وتعاطيه
ضرب من الخبل ، والجنون لا شفاء منه ، بل وذهبوا إلى القول بطريقة أو بأخرى بأن الكتابة الشعرية والإبداعية
عموما لا تسمن ولا تغني من جوع .. وهذا موقف مخزي ، وخيانة موصوفة لا تليق بالذين اختاروا الكتابة ،
واحتراقاتها ، ومكابداتها ، اللصيقة بالذات المبدعة الأصيلة ، إن التاريخ الأدبي والنقدي المنصف سيدين هؤلاء
الذين دنسوا شرف الكتابة ، وخانوا أولى اعتباراتها .
لكن شاعرنا رغم الألم ، والقسوة ، وشظف الحياة ، وتحولات الأيام وقسوتها ، ظل يكتب ، ويكتب ،
مؤمنا بأن القصيدة الشعرية الجميلة هي التي ستنتصر على كل الخيانات ، والمهاترات ، والمواقف الجبانة التي
أضّرت بالحركة الشعرية ، وهي تصعد في سفوحها الصعبة .
ـ 1 ـ
تجربة الشاعر مسعود حديبي من التجارب الشعرية الجميلة ، والأصيلة التي لم تأخذ حظّها نشرا ، ونقدا
واهتماما .. لكن رغم ذلك ظل مرابطا ، ينحت في صخر اللغة ومداليلها دون كلل أو ملل .. إن لغته الشعرية
المليئة بالشجن ، والأحلام ، والرؤى ، دليل شاعريته الأصيلة ، والملتزمة بخطها ، وحظوظها ، حيث أنه لم يرهن
موقفه أو ضميره ، بل أن شعريته المتوهجة ظلت تقاوم ، رغم الصعاب والعراقيل ، بل أن ذلك زادها
توهجا ، وألقا ، وأعطاها سمة القول الشعري الجليل ، والبوح الذي يتسم بالشفافيه ، والعذوبة ، والإحالات الذاتية
المنسجمة مع الأنا ، وهي تصعد في دروب الألم ، والمحبة ..
إن الحديث عن تجربة الشاعر تظل منقوصة وغير واضحة المعالم ، لتغييب وغياب عناصر هذه التجربة ،
وسط ركام الأيام وسياقاتها ، لكن الإشعاعات ، واللذاذات المنبثقة من نصوصه الشعرية ، تجعل هذه التجربة
المتميزة قائمة ، ومتواصلة ، في صمت جليل ، ينم عن أصالة النفس ، وذكاء الفؤاد ، وحسن التوجه .
عن سهو الجهات :
كتاب البدايات ، سفر القول ، بوح الذات المكلومة ، صياحها البليغ ، في خرائب المعنى ، ومعطى
الوجود ، وسط هذه التداعيات التي أرهقت الذاكرة ، والوجدان وفجرت مخزون الأنا وأحزانها المسربلة
بالحرمان ، والفقد ، والصبابة ..تنهض نصوص ” سهو الجهات ” كمنارات تلوح من بعيد ترشد التائهين ،
والحيارى ، والعشاق ، تمنحهم الثقة ، والأمان ، والشبع ، وراحة البال ، وصفو الخاطر ، وزهو الذاكرة ، وهي تخرج
من لظي جمرها ، راعفة بالقول الشجي ، والمعنى البهي ، الذي يوقظ الخامل من القول ، والمعنى في سياقات
متواترة ، ومتوترة ، تؤشر الدرب ، وتقول بالحادثة وتحولاتها الرعوية .
في ” سهو الجهات ” تنتصر اللغة البهائية على الإسوداد ، والحزن ، والحكاية التي أخجلت الذات، وهي تذهب
صوب أحلامها ، وتأملاتها وشجويتها ، المطعونة في عشقها اللاهب ، ووجدها الذاهب .
الشعر هنا مقول اللحظة ، وسر الكينونة ، ومجد المفردة ، وهي تخرج من أوشالها ، وأوحالها ، وطينها ، معولة على
صدق الأنا ، وثراء المخيال ، وشفاعة الرؤيوية البعيدة ، التي تلتقط من الحياة المهمل والعادي والهامشي وتحوله إلى
أشياء ، ومخلوقات لغوية تنبض بالقول ، والمعنى ، والصفاء .
في ” سهو الجهات ” نحس بالشاعر وهو يصعد في حزن أيامه ، وتعاسة لياليه ، وقهر اليومي الناجز .. متلفعا ظل
الأحباب الذين رحلوا ، والصحاب الذين خانوا ، والبلاد التي ضعضعتها الانتماءات الوضيعة ، والحب الذي
خان، أو توارى وانتهى إلى حيز لغة تتشظى في قهرها ، وعذابها الكاوي .. الشاعر الحقيقي رائي بامتياز يقرأ لغة
الصمت والمواربة ، يعي النظرة ، وشفرتها الجليلة ، يحس الآهة وهي تخرج من بين الصلب والخرائب ، يرى
الخطوات المتعبة ، والمقهورة وهي تذهب إلى أفق اللحظة وتشظيها :
ـ 2 ـ
” لي جهة
لا تراها أعيين النمامين
ولا الوشاةْ
جهتي عكس ما تشير إليه
المقاصد
والمراصد
والبوصلاتْ
لي جهة
تنتهي عندها
سيرة الأولين ، والآخرين
وتبدأ منها الجهاتْ “
الشعر نبوءات أو لا يكون ، رؤى استشرافية حادة .. في ” سهو الجهات ” ثمة مواقف ، ومواقف ، ذكريات جميلة
عطرة ، وأخرى حزينة مدماة ، يمنحها الشاعر من ذاته ، وشجنة ، وأوجاعه ، ورؤيويته ما يجعلها تنبض بالحياة
وتقول المحبة ، وتبشر بالأمل .. وهذه مزايا وصفات الشعر الإنساني ، الذي يرى إلى الأفق الكابي ،، معولا على
الإشراقات الذاتية ، والمحمولات الجمالية ، كما يصوب نحو أهدافه ، بيقين جميل وعذابية موصوفة ..
” كان يحب البحر الأعمقْ
ويكتب بالحبر المائل نحو اللون
الخط الأزرقْ
كان …
وما كان ليخطرلي …
أن صديقي الأسمر
ـ ذات خريف ـ
خارج البحر
خارج النص
سيغرقْ “
في ” سهو الجهات ” تحضر الذاكرة الذاتية ، والشعرية ، والحلمية في أروع تجلياتها ، وأبهى صورها لتقول الذي لا
ينقال ، والذي لا ينطال ، والذي سيظل شطحا ، وهذيانا يلوح في أفق البال .. إن ذاكرة الشاعر المثقلة بالحزن ،
والمحن والجراحات ، تقول شجن الذين ذهبوا ، أو اغتربوا ، أو انسحبوا .. حتى يتمكن الشاعر ، ويمكن من
ـ 3 ـ
الذهاب إلى سفوح الذاكرة ، وأغوارها ، وأحوالها وهي تتشظى ، وتنزف ، وتغرف ، وتذرف ، ليقول أحزانه ،
ومواجعه التي في الطوى …
” لا رثاء
لا بكاء
وأكتفي بدعاء
وقبلة على جبين أبي
ودمعة تغادرني
والسلامْ