وفيه تكون المعاني التي تنقلها برانية الكلمات فتُبعد القريب، وتقرِّب البعيد، بل إنها تجمع المتباعد وتفصل المتلاحم، لأنها طلاسم تلقحها التجربة يقول ابن عربي " إن الإشارة عند أهل طريق الله تؤذن بالبعد أو حضور الغير" ويكون مقام أول هذه الألاعيب التي تجتاح التجربة العرفانية حيث يتوحد الحبيب مع محبوبه، يفني فيه بالعبارة واللغة والتجربة، والحب لا يتم إلا بالقرب: " ولن يتأتى حب الله سبحانه دون الشرط الأول شرط القرب منه سبحانه "
يقول "عبد الحميد شكيل":
للريح بهجتها المستحبة،
للخطو سر الانتماء،
ولك يا سيدتي كل هذا البنج الجسدي
في الزمن الأول خلق الله الماء،
في الزمن الثاني خلق الله المرأة،
في الزمن الأخير تم المزج"
المزج يمثل لحظة للحب، لحظة لحلول اللاهوت في الناسوت، بل أكثر من الحلول هو توحد مع الحقيقة، ولعل هذه الأبيات الأخيرة فيها كثير من صيغ المناصصة مع أشعار ابن عربي حين يقول في السطر الثاني من قوله:
"نحن روحان حللنا بدنا"
وتأسيسا على ما تم، لاحظنا أن الكتابة عند العرفاني تقوم على مراجع أهمها: الذات، الوطن، الحب التي يتمثلها الصوفي في مكابدة الحقيقة وفق مصطلحاته ومعجمه.
بونة،
متسعي والمضيق،
وفتحة الروح التي في المدار الحسير،
هنا في هذا المقطع يتوحد المكان "بونة" -وهي ولاية عنابة الآن- بالذاتي في دلالة لفظة متسعي - الضمير يعدد على المتكلم- حيث أن المكان هو الفيض بل هو لحظة الصفاء الوحيدة فيفني الذاتي في موضوع الحب، حين يصبح المكان هو المدار النفسي.
العنوان- العتبة الأولى
العنوان هو الفيض الأول بل هو لحظة الكشف، لحظة يأخذ فيها المستور والمغيّب طريقه نحو الانبلاج والوضوح، فمنطوقاته اللفظية المرسلة في شكل ومضات إشارية يخاتل بها القراء؛ ينفلت عن المعنى المعرَّض لضوء النهار، كما يقول الهرمينوطقيون تصبح الدلالة عائمة مستعصية، فلوتة خافوية. من خلال دواوينه الشعرية الآتية:
تحولات فاجعة الماء، مقام المحبة، الطبعة الأولى 2002.
- مراتب العشق، مقام سيوان، الطبعة الأولى 2004.
- مرايا الماء، مقام بونة، الطبعة الأولى 2005.
- يقين المتاهة " الطبعة الأولى 2005.
نلاحظ أن العنونة عند "عبد الحميد شكيل" تأخذ شكل المقام الذي يتسرب منه العدول البلاغي حيث تلعب لغة العرفاني على التحول والانفصال، وكلها جروح انسابت إلى أعماق الشاعر، بل بين الشعر ومشاعره. يقول دريدا " الجرح يخلق الإنسان" فإطلالة بسيطة على عنونة الدواوين تجعلنا في المواجهة مباشرة أمام بنية القصيدة العرفانية التي تنطلق من حاله الجرح إلى كمونها في النزيف اللغوي.
وفيه يصبح الجرح أهم دوافع الكتابة، فالكتابة تعويض عن الذي فقدناه، وعملية الكتابة حلول في جسد الرمز، والعبارة لترتحل بك إلى الشفاء أي إلى الخلاص بمعنى الطهر؛ وهي حالة داخل اللغة وليس خارجها.
وهنا تكون البنية النسقية للعنونة ممركز حول وحدة نووية تشكل دائرة الفعل الإبداعي، وعند "عبد الحميد شكيل" يشكل المكان مقام الفيض والإلهام المركزي للكتابة.
وفيه تصبح العملية الإبداعية صيرورة تتغير مع وجوه الإلهام " المكان- بونة"، هذا المكان الذي هو فاجعة بحجم التحول الذي أصاب الوطن خلال فترة الإرهاب وفيه تحول إلى فاجعة الوطن الجريح.
حيث يقول في قصيدة: " خيبات الماء / مسرات الغربان". وفيها إشارات واضحة إلى حالة الفوضى والإرهاب التي عمت الوطن يقول:
نرتدي عرينا،
نسكب الماء الفجيعة على قمة الجرح .
إلى قوله:
ذنبك – يا محمد- حب الجزائر، والبحر، وشدو القبرات،
ودفء امرأة من ريف الطاهير المعنَّى
وصوت أطفال يلحون على معنى "الاغتيال" ولماذا ازدهر
الموت المباغت، رغم الربيع الذي يلف البلاد؟
ما معنى قتل الكلام البديع؟
لماذا البلاد الجميلة تضيع؟
عذابات الوطن لا تنتهي مع عرفانية "عبد الحميد شكيل" حيث يستنطق "مراتب العشق" وهنا ينقلنا الشاعر إلى الوئام والمصالحة حيث أن الوطن هو الشرف الذي كدنا نضيعه في سنوات أشكل علينا فيها الإنسان، لذلك لا سبيل لي استعادة الشرف إلا بالحب والعشق وهو قمة الإنسانية يقول في قصيدته " مقام سيوان"
في سيوان شاهدت امرأة، فاتنة الفحر، تتقافز من وجنتيها، أنسام الزعتر الجبلي، مرايا من زنجبيل الوديان، في سيوان
تتهادى امرأة الماء،
تصيح البهجة،
أنا فتنة الكون الأزلي،
فاضحة الفرسان!
عتبة اللاعتبة:
- الكتابة تمجيد للماء:
يكون الماء عند المتصوفة حالة الصفاء، حالة الشفافية التي تذوب فيه تجربة العرفاني، الماء وحده الحياة النبع الذي تنبجس منه الحياة، وهل القصيدة غير النبع الذي يخلق الجمال؟
الماء هو المداد الذي يكتب به الشاعر تجربته، إن البحث: " عن ماء الكتابة ارتبط لدى "عبد الحميد شكيل" بالبحث عن القصيدة والذات والعالم، عند عنصر يشم النص ويلقي بالذات في دوران زمنها. والبحث بالأساس اختبار لذلك فهو إقامة حرة على حدود الخطر، حيث المجهول والممنوع يتآلفان"
وهذا الماء نزوة عرفانية متجذره في الكتابة الشعرية، فهو المولد الذي يبعث الأشواق ويترجمها إلى ألفاظ دالة:
في الهزيع الأخير،
من وطن الماء،
وورد الرياحين،
اصطفاني البحر،
وخيرني بين الخروج وبين الولوج،
الكتابة، توليد:
إن التوليد الدلالي يهيمن على أعمال "عبد الحميد شكيل" الشعرية حيث يتولد من اللفظة الواحدة عدة دلالات ومعاني، وهنا تحاول الدوال المختلفة أن تستوعب التجربة الصوفية، يقول في قصيدته المتميزة " مراتب العشق / مقام سيوان".
على مرمى حجر،
من باب الفتح، المفتح،
بالمفاتيح،
الفتوح
الفاتحات
مغالق البرزخ،
كنت أنا جز الورد"
فهذه التوليدات اللفظية اختزنت دليلا مرجعيا لجذر " ف.ت.ح" وهو الجذر الثلاثي الذي أثار اللعبة الدلالية، لتغرق الألفاظ في المعاناة الصوفية. يقول في مقام آخر:
على مرمى حجر،
من باب العدل الذي في العدول،
المعدِّلة،
بالعادلات،
إن هذه التكرارات لهي خروج أو عدول أسلوبي عن القاعدة النمطية للمعنى المعجمي الحاف، فهي حالية المتصوف التي تفترض منه أن يحل في اللفظة ليولد منها ما هو على غير المألوف المغاير المخالف، لأن تجربة الصوفي تجنح إلى الاختلاف والانتشار في اللفظة الدالة على عالم الحلول أو الوحدة فهي من قبيل التشتت العرفاني بين حاضر ومغيب، الحاضر هو المعنى المعجمي والمغيب هو التوليد الدلالي؛ حيث تصبح اللفظة الواحدة لعبة بين دلالات مختلفة وهذا الذي يسمى بالتدليل أي إختراق المعنى للمتصورات الذهنية، فهنا يغيب المعنى المرجعي لصالح التجربة، ويغيب المعنى الحاف لصالح الدلالة المائعة الفلوتة .
فاكهة المتعة:
إن عالم "عبد الحميد شكيل " الشعري ينفتح على كل العرفانيات التي انتظمت منظومتنا الثقافية، فهي تجربة غنية من حيث: الشكل- الأسلوب- اللغة. "فعبد الحميد شكيل" يراوغ اللغة، وبها يفتح مغاليق النصوص ويستنطق بها المدفون وراء العتبات تلك المساحات البيضاء وتلك الفواصل المركونة من زاوية كل سطر شعري. اللغة تضمحل على عتبة الرمز والأسطورة الصوفية حيث يصبح الشاعر مخبرا وراويا بالمعنى السردي.
ويلعب الصوفي باللغة على عتبات: الذات، الوطن، العشق هذا الثالوث الذي ينتقل عبر جسد القصيدة فيتوحد معها. وهنا تصبح خواطر العرفاني وتجربته بل عتبات خطابه مفاتيح لقراءة المسكوت، ونفض العبء زمن على التراكم الدلالي، لتصبح التجربة تجارب واللفظة ألفاظ والمعنى معاني وفق لعبة سيميوطبقة مكشوفة، لا يبقى معها إلا تسليط الضوء وإخراج الآليات والمعاول النقدية لتهديم النص وبنائه من جديد.
يمارس نص "عبد الحميد شكيل" إغراءا وفق مبدأ اللذة، حيث تستدعينا نصوصه لنتموقع داخلها كقراء وهنا تصبح جزءا من التجربة العرفانية، وفيه يتحول الموضوع إلى ذات والذات إلى موضوع .
مراجع الدراسة :
- أكاديمي من الجزائر .
- عبد الحميد شكيل : شاعر جزائري .
- نصر حامد أبو زيد، هكذا تحدث ابن عربي، المركز الثقافي العربي، بيروت الدار البيضاء، الطبعة الأولى. ص: 52.
- مجدي محمد إبراهيم: التصرف السني، حال الفناء بين الجنيد والغزالي مكتبة الثقافية الدينية، القاهرة، الطبعة الأولى 2002 . ص: 33.
- أقصد هنا دواوينه التي وصلتني من الشاعر بإهداء منه شخصيا وهي تحولات فاجعة الماء، يقين المتاهة، مرايا الماء (مقام بونة)، مراتب العشق (مقام سيوان).
- نصر حامد أبو زيد، هكذا تكلم ابن عربي. ص:9.
- ابن رشد: الكشف عن منتهج الأدلة في عقائد الملة، تحقيق محمد عابد الجابري مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت الطبعة الثانية 2001. ص: 117
- يحتل مفهوم الفراغ والبياض مكانة متميزة في الطروحات التي قدمها ايزر وقد أطلق عليها الفيلسوف البولندي روماني انجاردن بـ "أماكن اللاتحديد".
- فرانك شوير ويجن: نظريات القراءة ترجمة عبد الرحمان بوعلي، دار الجسور الغرب ط 1 1995. ص: 78.
- عبد الحميد شكيل: مرايا الماء (مقام بونة) منشورات وزارة الثقافة مديرية الفنون والآداب الجزائر الطبعة الأولى، 2005. ص: 148.
- عبد الحميد شكيل ، تحولات فاجعة الماء، منشورات اتحاد الكتاب الجزائريين، الجزائر الطبعة الأولى 2002. ص: 24.
- نصر حامد أبو زيد، هكذا تكلم ابن عربي. ص: 89.
- عبد الحميد شكيل، تحولات فاجعة الماء. ص: 11.
- عبد الحميد شكيل ، مرايا الماء. ص: 34-35.
- أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال تحقيق عبد الحليم محمود ، دار الجيل بيروت الطبعة الأولى 2003. ص: 137.
- عبد الحميد شكيل، فاجعة الماء. ص: 20.
- عبد الحميد شكيل، يقين المتاهة منشورات الملكية الوطنية الجزائرية الجزائر الطبعة الأولى 2005. ص: 110.
- عبد الحميد شكيل، تحولات فاجعة الماء . ص: 03.
- عبد الحميد شكيل، تحولات فاجعة الماء. ص: 84.
- عبد الحميد شكيل، مراتب العشق (مقام سيوان) مطبعة المعارف عنابة الطبعة الاولى 2004 . ص: 90-91.
- محمد بنيس، كتابه المحور دار توبقال للنشر، المغرب الطبعة الأولى 1994. ص:21.
- عبد الحميد شكيل، مرايا الماء (مقام بونة) . ص: 27.
- عبد الحميد شكيل ، مراتب العشق (مقام سيوان) . ص: 36.
- عبد الحميد شكيل ، مراتب العشق (مقام سيوان). ص: 38.
الرد على هذا المقال
١ مشاركة منتدى
قراءة في تجربة عبد الحميد شكيل الشعرية
7 كانون الثاني (يناير)2008 ، بقلم نورة رزقي
السلام عليكم نرجو من الاستاذ الشاعر عبد الحميد شكيل ان يزودنا ببعض المعلومات حول ديوانه غوايات الجمر و الياقوت الذي هو موضوع دراسة تطبيقية لمذكرة تخرجي لنيل شهادة الليسانس ان شاء الله و التي أتناول فيها دراسة سيميائية لعناوين القصائد.أرجو من سيادتكم المساعدة. في انتظار ردكم تقبلو مني سيادتكم فائق الاحترام و التقدير
[URL=http://www.bibo4pc.com/]
[/UR